كان من بين تلك النخبة المجتمعة في الصورة، مروان حامد، المخرج الشهير ونجل السيناريست الأشهر في تاريخ السينما المصرية الملتزمة تجاه قضايا مجتمعها الراحل وحيد حامد، الذي كانت أفلامه تشتبك بنديّة مع اليوميات السياسية والاجتماعية المصرية في التسعينيات ومطلع الألفية. ولوحيد حامد عدد من الأحاديث التي كانت تهاجم «سينما المقاولات» التي تنتج من أجل بيع شرائط الفيديو في الخليج، وأيضًا هجومه على مصطلح «السينما النظيفة» التي أشاعها جوّ «خلجنة» المجتمع المصري وانحرافه نحو مساراتٍ كالوهابية وقيمها. بين الأب والابن إذن تتضح ملامح المشهد، ومهرجانات الفن السعودي التي انهمرت على المشهد الفني في مصر مؤخرًا، حيث كرمت فنانين مصريين، منهم أحياء ومنهم أموات، متجاهلة وحيد حامد، رغم كونه عامودًا فقريًا للفن المصري في العقود الأربعة الأخيرة.
يمثل لي وحيد حامد، رغم تدجينه في السنوات الأخيرة قبل وفاته، ودخوله - الخجول ربما - في جوقة النظام الحاكم في مصر، نموذجًا نحتاجه لفهم الحالة الفنية في مصر حاليًا. نموذج وحيد حامد إذًا كما هو عليه، أي بعيدًا عن الارتماء في أحضان السعودية، وبعيدًا من الشعور الزائف بـ«التفوق» والحمق الذي يصيب من يُطلقون على أنفسهم «كمايتة» أي أصحاب النعرة اليمينية والشعور بالانتماء لهوية فرعونية مزعومة لم تقطعها آلاف السنوات من حكم حضارات مختلفة لمصر.
غزو آل سعود الأول
حينما يتم التضييق على الفن في بلد قمعي مثل مصر، يتجه الفنانون، ولا عذر لهم في ذلك، إلى التحالف مع السلطة بدلًا من مواجهتها. وباعتبار أن السينما، في وسعها أن تكون وسيلة ترفيهية، وقبل أي شيء أداة استهلاكية، ما يعني أنها تدرّ قدرًا كبيرًا من الأرباح ما يشكل رأسمالٍ اقتصاديًا للفنان، ناهيك عن الرأسمال الاجتماعي الذي يسمح بتشكّل مكانته في المجتمع، فإن الممثل يقوم بالتحالف مع رأس المال الماليّ أيضًا. هذا هو المشهد ببساطة في مصر، يتلاقى عدد من المصالح ضربة واحدة: موت السينما الملتزمة تجاه قضايا مجتمعها، وسلطة تحتاج إلى مسلسلات وأفلام لتمجيد ضباط الجيش، وعناصر الشرطة مفتولي العضلات وأصحاب الشوارب الكثيفة. سيقدم هذه الصورة بشكل جيد جدًا أمير كرارة أو السقا أو أحمد عز. وتلك الأسماء نفسها تلتقي مصالحها مع المناخ السعودي الذي انفتح مؤخرًا بليبرالية مزعومة، انفتاحٌ أتى بالتزامن مع انهيار الجنيه المصري إلى ما تحت الهاوية بكثير، هكذا أصبح الريال السعودي يحقق عشرة أضعاف الأرباح لأعمال الممثلين، والحال أنه إذا أطلق أحد الفنانين مثل بيومي فؤاد ومحمد ثروت فيلمًا من بطولته في السوق المصري فلن يحقق مليون جنيه، ولكنه سيحقق إيرادات خرافية بالريال السعودي، قد تصيب الفنان المصري بذبحة صدرية إثر سماعها.
إنها حالة من «التضامن المجالي» على حد تعبير بيار بورديو. حيث يشكل «رأس المال الرمزي» موردًا ماديًا ومعنويًا يمكّن صاحبه ممارسة السلطة، والنفوذ والتواجد في مجال معين بدلًا من أن يكون غائبًا، أو مغمورًا لا أكثر. في حالتنا، إن تركي آل شيخ هنا هو المفتاح لهذا المجال التضامني، ثمة علاقة بينه وبين اللاعبين في البيزنيس الفني، ويتوسطهم الممثلون، فكل شخص معنيّ بمجال ما يتقاسم مع أقرانه عددًا من المصالح الأساسية وكل ما له صلة بوجود المجال نفسه.
هكذا تلتقي مصالح الدولة السعودية مع الفنانين في مصر. السعودية في مرحلة انتقالية إلى الحداثة والانفتاح، وهي لا تستطيع خلق نخبة من العدم، إلا أن تلك النخبة جاهزة وموجودة بالفعل لدى مصر التي تجاورها. مصر التي يمتلك فنانوها قاعدة جماهيرية كبيرة، وإرثًا عريقًا في السينما المصرية بصفة عامة، وأفلام مصر ليست غريبة إطلاقًا على السوق السعودي، بل هناك علاقة متينة تعود إلى ستين عامًا أو أكثر بين هذه السينما والجمهور السعودي.
دائمًا ما يتأسس المجال الثقافي السعودي بتوجيه من الحاكم الذي يصيغ المجال الثقافي على الشكل الذي يرضيه. يسيطر آل سعود على قدر كبير من المال يتيح لهم أن يفعلوا أي شيء يحلو لهم. والصفقة واضحة منذ زمن طويل، قديمة قدم إنشاء الدولة نفسها منذ مئة عام، وقد بلغت ذروتها بعد الطفرة النفطية سنة 1973، تنصّ على أن يتخلى المواطنون عن الحق السياسي مقابل أن يحظوا بالرفاهية. منذ السبعينيات، وبعد أن صادرت الدولة كل الحقوق السياسية الممكنة للمجتمع بأشكال مختلفة من القمع أو تقسيم الامتيازات، أصبحت الحركات الاحتجاجية الوحيدة الممكنة في السعودية هي حركات ذات صلة بالثقافة والمطالبة بطريقة عيش تُصنف بالليبرالية أو بـ«الغربية»، فأصبحت المعارضة المحيّدة سياسيًا، معارضة ثقافية في الأساس، وتحولت المطالبة بالتغيير السياسي والعدالة الاجتماعية للمطالبة بالانفتاح الاجتماعي. وهذا ما استجاب له محمد بن سلمان بشكل راديكالي أكثر من أعمامه الذين كانوا كلما تقدموا خطوة واجهوا صدامًا حادًا مع رجال الدين. ويشكل كمّ الأموال التي تصرف على الترفيه ركيزة أساسية في هذا المشروع السعودي «الحديث»، والذي أصبح الفنّ المصري بسبب سوقه الفقير وعزوف جماهيره عن أفلامه المُدجنة والتافهة، أحد أهم الواقعين تحت وطأة أحلام ولي العهد.
تُذكرني تلك الحالة بالبرنامج الإذاعي الساخر «راديو كفر الشيخ الحبيبة»، والذي ظهر بالتزامن مع التغيرات السياسية المزلزلة في مصر بغية السخرية منها جميعًا ومن أطيافها كافة. في إحدى الحلقات يخرج علينا «أوساذ محما» مقدّم البرنامج بحلقة تحت عنوان «السعودية في الحب» - كانت تلك الحلقة بالتزامن مع بيع جزيرتيّ تيران وصنافير من النظام الحاكم لمصر إلى السعودية - ويستضيف فيها الأستاذ «بندر الثبيتي» السعودي الذي اشترى «الراديو» وقام بتغيير معالمه، قبل أن يقتحم الأستاذ «عبكويم» الاستوديو ويبدأ بالهجوم على «أوساذ محما» والأستاذ «بندر» ذلك أنهما يشوّهان هوية «الراديو» المصرية، ليقنعه «الأوساذ محما» أنه لا خوف من «خولجة» الراديو، فلا بديل عن ذلك لأننا «فلسنا، ولما فلسنا، فنسنا» ومصطلح «فنسنا» هو مصطلح مصري يشرح عملية الانحناء استعدادًا للنكاح!
«الكمايتة» وجهًا لوجه مع «البترو-الريال»
قبل عشرة سنوات مثلًا، كانت شركة إنتاج الأخوين «السبكي» قبل انفصالهما هي التي تسيطر على المشهد الفني في مصر، من ناحية الزخم والزعيق المستمر. كانت «السبكي» في وقت بناء المجتمع - هكذا كانوا يظنون - في أعقاب 25 يناير 2011 بمنزلة عقبة في طريق التحضر والارتقاء والمواطنة والمدنية - هكذا كانوا يظنون أيضًا - بسبب ما تشيعه أفلامها من انتصار لقيم البلطجة والتحرش والمخدرات وشيوع الراقصات والكباريهات والإثارة الجنسية لجسد المرأة، و«السبكي» طبعًا هي أحد أهم المتعاونين مع محمد رمضان في بداية ظهوره وإعطائه فرص البطولة. فأفلام «السبكي» هي من صنعت نجومية محمد رمضان سينمائيًا وفجرتها وأعطتها شكلًا أيقونيًا لا يزال صداه حاضرًا حتى اللحظة. ففي عامي 2012 و 2013 على التوالي حقق رمضان لـ«السبكي» إيرادات تخطت 40 مليون جنيه كانت تناهز آنذاك 7 ملايين دولار، وحققت «السبكي» لمحمد رمضان الأسطرة في شخصيات «عبده موتة» و«فارس الجن» اللذان لا يزالان حاضران حتى اللحظة. في الكواليس، كانت البلاد تعج بأزمات سياسية كثيرة، وكان «السبكي» هو الملاذ الآمن للهجوم عليه في الفضائيات والجرائد المصرية. اذهب إلى جوجل، واكتب مثلًا: «أفلام السبكي والمجتمع المصري» وسيجد لك مُحرك البحث عشرات المواضيع تشعرك أن «السبكي» كانت عدوّة الشعب آنذاك، وهي المسؤولة عن كل ما وصل إليه المجتمع من تشوّهات. لا الأحداث والتحالفات التي دُبرت على مضض بين المجلس العسكري وكل أطياف السياسة في مصر، حتى استقرت مصر في أيادي العسكر في النهاية على حد تعبير الصحفي والمراقب للأحداث آنذاك ديفيد كيركباتريك، وكان نتاجًا لكل هذا هو مزيد من إفقار الشعب المصري، ومصادرة أحلامه، وتشويهه. لا أفلام «السبكي» وغيرها التي كما ادعى أحد النقاد، كانت تتحدث «عن عالم غير موجود في مصر من الأساس» ويا لها من سخرية!
بعد عشر سنوات، لا زالت معركة الفن المصري هي الملاذ الآمن للحديث عن السياسة بالغمز واللمز. نسيَ الشعب «السبكي»، ليحل محلها تركي آل الشيخ بشوالات «بترو-ريالاته» على مصر، بدءًا من كرة القدم وانتهاءً بالسينما والمسرح والغناء والإعلام. ولكن الأزمة الثقافية التي حملها تركي آل الشيخ كانت أكبر كثيرًا من أزمة «السبكي»، ففي النهاية كانت «السبكي» تصنع سينما على أرض مصر، وتعرض أفلامها للجمهور المصري، أما ما يفعله «معالي المستشار» كما تلقّبه نخبة الفنانين المصريين، فهو أنه ينقل الصناعة برمتها إلى السعودية، ويوجهها إلى الجمهور السعودي، ويلعب دورًا بديلًا للهيئات الثقافية المصرية بتكريم رموز الفن المصري، وكل هذا يثير جنون «الكمايتة» الذين يرون فيه تعديًا صريحًا على هوية الفن المصري وقوميته.
يتجاهل «الكمايتة» أن الأزمة الرئيسية سببها النظام في السياسة وليس في الثقافة، عبر ارتمائه في أحضان الريع الخليجي وودائع الإمارات والسعودية - التي لا زالت تحافظ على القليل من استقرار مصر - وطبعًا بيع الجُزر والأراضي والمشاريع وقناة السويس والمصانع القومية والمشاريع التي سالت دماء المصريين من أجلها في الماضي لدول الخليج ورجال أعمالها ومستثمريها. يتجاهلون كل هذا، ويفرغون غضبهم في قضية الفن، ويجنّ جنونهم حينما يتعلق الأمر بتكريم فنان مصري في مهرجان الرياض، ويشنون الهجوم عليه ويتناسون أن الاقتصاد المصري هو الذي بات اتكاليًا على شوالات الأموال تلك. من المؤسف أن يظهر تركي آل الشيخ وبترو-ريالاته على شكل ضحية، ولكن بالفعل، فأمام سخط «الكمايتة» وقياسًا بمواقفهم، صار تركي آل الشيخ وأمواله ضحيتين يتحملان أخطاء النظام المصري الكبرى!