في لقائه قبل يومين مع الهيئات الاقتصادية، قال نائب رئيس الحكومة، سعادة الشامي، إنه يسعى إلى إنشاء «صندوق يهدف إلى إنعاش الاقتصاد وإعادة الإعمار»، وإن المباحثات بشأن ذلك «حقّقت تقدماً». هذا الصندوق، بحسب ما قال الشامي لـ«الأخبار» يهدف إلى «إعادة الإعمار والتعافي الاقتصادي، وسيكون مموّلاً من الدول المانحة ويدار من البنك الدولي، بالتعاون مع الحكومة اللبنانية».
إذاً، ما زالت فكرة إنشاء الصندوق في مهدها. هي «مبادرة أوّلية نوقشت في واشنطن مع ممثلين عن البنك الدولي ولاقت صدى واستعداداً للمساعدة وفريق عمل متحمّساً» يقول الشامي. برأيه، ثمة ما يدفع إلى القيام بهذا الأمر، انطلاقاً من ضرورة التفكير باليوم التالي لما بعد الحرب، لأن التحديات كبيرة والأضرار كبيرة أيضاً، «ولبنان ليس لديه القدرة للاهتمام بهذه المسائل وحده». لذا، يُفترض أن «يتّكل لبنان على أصدقائه للحصول على المساعدة اللازمة في إطار هدفين: تحريك النشاط الاقتصادي، والإعمار». ويبني الشامي هذه الخطوة على مسألة بديهية: «الحرب ستنتهي، ويجب التحضير لما بعدها. البنك الدولي لديه الخبرة في إدارة صناديق كهذه في أوكرانيا وصوماليا دول أفريقيا... لكن المشروع ما زال في إطار المساعي والمباحثات التي قمنا بها في واشنطن مع البنك الدولي أثناء اجتماعات الخريف»، يقول الشامي.
بمعزل عن جهد الشامي، إلا أن الفكرة الأوضح في كلامه هو ما يرتبط بضرورة التحضير لليوم التالي بعد الحرب. بعد ذلك، ما من شيء واضح، ولا سيما في إطار مسألة عدم قدرة لبنان، إذ إن الأمينة العامة للمجلس الوطني للبحوث العلمية تخالف الرأي، وتشير إلى أن لبنان لديه القدرات الذاتية التقنية، وأن الاتهامات بالفساد لا تلغي وجود فساد في المنظمات الدولية أيضاً.
لكنّ ثمة وجهتين يمكن رصدهما ربطاً بجوهر المسألة المتعلق بالتحضير لليوم التالي؛ الأولى تشير إلى أن أيّ يوم تالٍ لا يمكن إلا أن يأتي في سياق التوازنات التي ستنشأ بفعل نتائج الحرب، وهذه مسألة مرتبطة عضوياً بقوى محلية وخارجية. والثانية تقول إنه رغم ارتباط اليوم التالي بالأطراف الخارجية والمحلية، إلا أنها مسألة يتم التخطيط لها والتفاوض عليها، ونسبة ما يصيب فيه لكل طرف، هو ما يفرض اليوم التالي.
في الحالتين، لا يمكن اختصار مسألة اليوم التالي بصندوق مالي، إنما يكون هذا الصندوق تعبيراً عن النتائج. صحيح أن إنعاش الاقتصاد يعدّ أولوية، وأن الإعمار أولوية، إلا أنه سبق أن ظهرت أولويات كهذه ترتبط بالاقتصاد والتنمية في منتصف 2019 وتبلورت بشكل واضح بعد إفلاس المصارف وانهيار النقد، لكنها ظلّت عنواناً في «الأجندة» بمواكبة من المنظمات الدولية والدول المانحة من دون أن تتحوّل إلى إجراءات ونتائج. بالعكس، أعيد النموذج الاقتصادي نفسه إلى الحياة بعد تدمير واسع: طارت المدّخرات، انكمش الاقتصاد إلى ثلث ما كان عليه ولم يطرأ أي تغيير على بنيته التي تعتمد على التدفقات الخارجية لتمويل الاستهلاك المحلّي، بل زاد الاعتماد على هذه التدفقات التي بدأت تصل إلى لبنان على شكل مساعدات وهبات وقروض بقنوات شبه رسمية، وهاجر عدد كبير من القوى العاملة الماهرة بعدما قرّرت الأسر أن المستقبل في لبنان ليس واضحاً في المدى المتوسط أقلّه، وما إلى ذلك من نتائج اقتصادية واجتماعية. ففي فترة ما قبل عدوان إسرائيل على لبنان، كان قد مضى نحو خمس سنوات على الانهيار المصرفي والنقدي، ولم يكن لبنان قد اتخذ أي إجراء، لا على صعيد السياسات العامة، ولا على مستوى المؤسّسات. وفي هذا الوقت، كانت الصناديق الدولية تركّز عملها على الهبات والقروض المشروطة بإرادة الواهب. فعلى سبيل المثال، من أبرز شروط صندوق النقد الدولي لإقراض لبنان مبلغ 3 مليارات دولار، أن تنفذ مجموعة مما يسمّى «إصلاحات» من ضمنها إعادة هيكلة المصارف. ومن شروطه أيضاً التي ظهرت لاحقاً عبر مندوبه في منظمة «فاتف» أن يوقف لبنان كل ما يتمحور حول ما يعتبر أنه تمويل مرتبط بحزب الله. في الواقع، كانت هناك مشاريع خارجية ومحلية تعبّر عن أولويات لم تترجم بأيّ «صندوق» سياسي – مالي. فالمشروع الأميركي – الفرنسي للتعافي، والذي جرى تلزيمه للمبعوثين الفرنسيين في زيارات متتالية على مدى كل هذه السنوات، انتهى بحصيلة صفر. أي أنه كان أولوية في «الأجندة» وبقي على هذه «الأجندة» من دون أي ترجمة في أي صندوق.
في 2006 كان المطروح «نظام حكم رشيد» في سياق تمويل التعافي والإعمار
ثم أتت الحرب لتحوّل الشروط التي تفرضها المنظمات الدولية والدول بواسطة «مندوبيها» في لبنان، من قروض مشروطة إلى هبات، وهذا ما يمنحها قوّة أكبر في التفاوض على الشروط. بهذا المعنى، يصبح أي صندوق مخصص للإعمار والتعافي الاقتصادي مجرّد أداة تفاوضية. لنأخذ ما حصل بعد عدوان تموز 2006. ففي 22 شباط 2007، صدرت ورقة عن اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا «إسكوا» بعنوان «إعادة إعمار لبنان ونھوضه، ورقة حول السياسة العامة ومبادرات»، تفيد بأن خيارات العمل المستقبلي يجب أن تكون مدمجة بين «إعادة الإعمار والتنمية»، إلا أن «مجرد الدمج بين إعادة الإعمار والتنمية فقط لا يمكنه مواجھة التحديات. فأنظمة الحكم الرشيد القائمة على الشفافية والمشاركة ضرورية للإشراف على المبادرات والبرامج اللازمة؛ ويجب أن تدعم برامج المساعدة التي تقدمھا الجھات المانحة، سواء كانت تستھدف إعادة الإعمار أو التنمية في المستقبل، الدور المركزي الذي تضطلع به الدولة ككيان ميسّر ومعزّز ومنسّق».
إذاً المسألة كلّها تكمن في النظام السياسي. وهذا يصبّ في صلب ما يحصل اليوم. فاليوم التالي ليس يوماً إجرائياً يقرّر فيه شكل الصندوق ولائحة بالمموّلين وبأهداف تتضمن تحريك نشاط قطاع ما، بل هو يوم مرتبط بنظام الحكم، وبالتالي هو مرتبط بالنسيج الاجتماعي والاقتصادي. في 2006، كان المطلوب «نظام حكم رشيد»، بما يوحي أن النظام القائم على فوز حزب الله بالمعركة والذي تُرجم باتفاق سياسي دولي لمصلحته، يجب تعديله ربطاً بالتمويل الخارجي الذي يتغذّى عليه هذا النظام. أما اليوم، فما المطلوب؟ هذا هو السؤال الذي ستترجم إجابته في صناديق التمويل والإعمار التي تناقش مع البنك الدولي وغيره. أيّ نقاش في هذا الأمر يجب أن يأخذ في الحسبان أن التعافي ليس مجرّد صندوق.