كثيرة هي المواضيع التي يختلف اللبنانيون في شأنها في السياسة والإدارة والدين والمجتمع والاقتصاد والتربية والعلوم، وفي كيفية إدارة الدولة، وفي العلاقات الخارجية وقوانين الانتخابات، وفي الانتماء الوطني. ويختلفون كذلك على تفسير الدستور، وعلى ما يشبههم وما لا يشبههم، وعلى كيفية تنظيم الاختلاف. تظهر خلافات اللبنانيين إلى العلن، وتُنشر في وسائل الإعلام، وتنفجر أحياناً في الشارع أو في لقاء أو حتى في اجتماع بين الأصدقاء والأقارب. وتنتشر الخلافات في كل القطاعات والمجالات التي تخص الناس فتتحوّل إلى حلبة صراع بأشكال مختلفة، وتُعطّل الدولة وتخرّب ما تبقى من المؤسسات وتدمّر أي أمل في قيام الجمهورية.
لكن، ربما، هناك موضوع لا يمكن أن نختلف في شأنه يتعلق بواجب إصلاح القضاء ليتحوّل فعلاً إلى آلية فعالة لتأمين حقوق كل لبناني ولبنانية انطلاقاً من مبدأ العدل والإنصاف. وقد يحاول البعض الالتفاف على هذا المبدأ أو تفسيره بشكل يتناسب مع خطه السياسي أو انتمائه الطائفي والمذهبي أو مع حزبه ومصالحه الشخصية، لكن الجميع يعلمون علم اليقين بأن مصالحهم الأساسية لا يمكن المحافظة عليها من دون الرضوخ لسلطة تحكم بالعدل بين الناس.
صحيح أن البعض قد يختلف مع البعض الآخر في توظيف مبدأ العدل والإنصاف، وفي تحديد متى يتم اللجوء إليه ومتى يمكن الابتعاد عنه، إلا أن المشكلة في ذلك ليست خلافاً على تعريف العدل والإنصاف، بل بالخلل في مفهوم «المبدأ». فالمبدأ ينطبق على كل الحالات بغضّ النظر عن الظرف والتوقيت والمكان والإطار والبيئة.
نظام العدالة المتمثّل بالسلطة القضائية يفترض أن ينطلق من مبدأ العدل والإنصاف. ولذلك، فإن القضاة المؤتمنين على العدالة يفترض أن يشكّلوا سلطة مستقلة، لا أن يكونوا موظفين في إدارة الدولة يعملون وفقاً لبرنامج سياسي أو إداري مرحلي يُشار إليه في البيانات الوزارية. ووزير العدل لا يفترض أن يكون وزيراً على القضاة، بل هو (أو هي) حافظ أختام الدولة (لدى الكتّاب بالعدل) وممثل السلطة القضائية أمام مجلس الوزراء الذي يشكّل، مجتمعاً، أعلى سلطة في الدولة.
وهنا أيضاً قد يختلف اللبنانيون على تقييم القضاة وعلى نزاهتهم وكفاءتهم واستقلاليتهم وانحيازهم، لكن لا يمكن لهم - أو لأي أحد غيرهم أن يختلفوا على الوقائع - عندما تكون مدعومة بالإثباتات والقرائن والدلائل العلمية القاطعة. فالقاضي لا يحكم من تلقاء نفسه أو استناداً إلى رأيه أو توجهه أو عواطفه أو تقييمه الخاص، بل يفترض أن يُصدر الحكم استناداً إلى الوقائع المثبتة من دون أدنى شك معقول بعد عرضها أمام المحكمة العلنية أمام الجميع.
وبالتالي، فإن ما لا يمكن أن يختلف في شأنه اللبنانيون، ليست الأحكام الصادرة عن المحاكم، ولا الإدانات التي تبثها بعض وسائل الإعلام، ولا الشبهات التي يُعبّر عنها البوليس أو المخابرات، بل الوقائع والحقائق التي تُعرض أمام المحكمة العلنية بالتفصيل وتخضع للتدقيق العلمي من قبل الجهات المتخاصمة. لذا، فإن الكفاءة العلمية والاختصاص المهني والأمانة الأخلاقية هي الأساس، لا القضاة ولا المتخاصمين ولا وسائل الإعلام. ولذلك، لا يمكن أن يختلف لبناني مع لبناني آخر في شأن واجب إصلاح القضاء وقيام سلطة قضائية مستقلة يتمتّع فيها القضاة بالنزاهة والكفاءة... ليس شكلياً بل بالفعل.
ويستدعي ذلك ورشة إصلاح ضخمة لا يقودها رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو وزير العدل، بل يصنعها القضاة أنفسهم، انطلاقاً من معهد الدروس القضائية، ومن التشدد في اختيار مَن يمكن أن يؤتمن على العدل والإنصاف.