اوراق مختارة

هل ينبذ لبنان سياسات تدمير الإنتاج؟

post-img

ماهر سلامة (جريدة الأخبار)

منذ التسعينيات انخرط لبنان في عقد اتفاقيات تجارية مبنية بجميع أشكالها على قواعد منظمة التجارة العالمية التي تكافح السياسات الحمائية بكل أشكالها المعلنة والمستورة. على هذا الأساس تأسّست العلاقات التجارية مع المجموعة العربية ومع الاتحاد الأوروبي وحتى مع الدول بشكل ثنائي.

كانت هذه الخطوات جزءاً من سياسة اقتصادية ليبرالية تتمثّل بـ«تحرير» الاقتصاد.

لكن مقابل تأجيل الانهيار والإفلاس، انخرط لبنان في الانبطاح أمام شركائه التجاريين، فأسقط الجزء الأكبر والأهمّ من حقوقه في إطار التجارة الدولية والشراكات، ولم يتمكّن من خفض أكلافه المحلية وزيادة تصدير الإنتاج، بل أصبح تحت وطأة المنافسة مع بضائع مستوردة أرخص ثمناً. لكن، ها هي الفرصة التي تأتي مرّة في العمر، مع قيام مؤسّسي منظومة التجارة العالمية بنسفها من أساسها والعودة إلى الحمائية. فهل يستطيع لبنان استغلال ذلك لتطبيق سياسات تحمي إنتاجه المحلّي وتعزّز قدراته التنافسية؟

تغير قواعد التجارة العالمية

بموجب الحرب التجارية التي شنتها الولايات المتحدة على «العالم»، يمكن القول إن قواعد التجارة الدولية سقطت، ولا سيما في مجال نبذ «الحمائية» التي فرضتها أميركا بوصفها المهيمن السياسي والأمني والاقتصادي على العالم تحت شعار حرية التجارة العالمية.

فالزيادات الجمركية التي فرضها ترامب أخيراً على عدد كبير من دول العالم، هي بمنزلة تحوّل جذري يهدّد الأسس التي قامت عليها التجارة المتعددة الأطراف ويُضعف الثقة بآليات منظمة التجارة العالمية.

هذا ما أشار إليه روبرت ستايغر في مقال بعنوان «كيف يهدد ترامب النظام التجاري العالمي»، لافتاً إلى أن سياسات الحماية الجمركية «تُزعزع الاستقرار وتفتح الباب أمام احتمالية نشوب حروب تجارية جديدة تقوض الاتفاقيات الدولية».

أيضاً يُشير تقرير إدوارد ألدن في تقرير بعنوان «عهد ترامب الجديد المحفوف بمخاطر كسر قواعد التجارة» الصادر على موقع «مجلس العلاقات الخارجية»، إلى أن «سياسات ترامب تُعيد تشكيل معالم التجارة العالمية بطريقة غير متوقعة، ما يفرض تحديات جسيمة على الاتفاقيات التي دائماً ما سعت إلى تحقيق استقرار النظام التجاري الدولي.

وبذلك، لا تُعدّ هذه الزيادات مجرّد إجراءات داخلية أميركية، بل تُرسخ انعكاسات سلبية تمتد إلى قلب نظام التجارة العالمي، ما يستدعي إعادة تقييم دور الاتفاقيات الدولية في ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة».

ومع بداية ولاية ترامب الأخيرة، اتّخذت الحرب التجارية العالمية شكلاً جديداً. فمنذ توليه الرئاسة، شرع في إعادة تشكيل النظام التجاري الأميركي وفقاً لرؤية «أميركا أولاً» التي تعتمد على فرض تعرفات جمركية مرتفعة على مجموعة واسعة من الواردات، ولا سيما من الصين ومن دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك.

هدفه تقليص العجز التجاري الأميركي وحماية الصناعات المحلية وإعادة التفاوض على اتفاقيات تجارية رئيسية، مثل اتفاقية التجارة الحرّة لشمال أميركا التي أعيد تسميتها لاحقاً بـ USMCA.

إنما كانت التداعيات، حتى الآن، هائلة. فإلى جانب الخسائر التي أصابت الأسواق المالية مع ضعف ثقة المستثمرين بهذا «الجنون»، أدت هذه القرارات إلى تصاعد التوترات التجارية مع شركاء رئيسيين للولايات المتحدة على مستوى العالم، ما دفع ترامب إلى التراجع مع بعض الدول أو التفاوض معها.

لبنان يستورد سلعاً يصنّعها

لبنان سجّل خلال مرحلة التسعينيات تراجعاً دراماتيكياً في قطاعاته المنتجة بفعل السياسات التي أعطت الأولوية للريع على الإنتاج. وقد أسهم في هذا الأمر عوامل عدّة، أهمّها الاتفاقات التجارية التي لم تكن لمصلحة الإنتاج اللبناني، إضافة إلى تثبيت سعر الصرف، الذي أحدث ورماً كبيراً في قيمة العملة وكانت له تداعيات في تضخيم القدرة على شراء السلع المستوردة التي أصبحت تنافس السلع المحلية من دون أي عوائق.

وأظهرت إحصاءات الدليل الصناعي في 2022 أن لبنان يستورد نحو 1179 سلعة سنوياً يمكن تصنيع مثيل لها داخل البلاد، وهي سلع تمثّل فرصة لتوفير 5.4 مليارات دولار أو 24% من الناتج المحلي، ما يكشف عن ضعف الاعتراف بالدور الإنتاجي المحلي من قبل السلطات الاقتصادية والسياسية.

يعود الأمر إلى سياسات الحكومات المتعاقبة ما بعد الحرب الأهلية، إذ لم تظهر أي منها إرادةً حقيقية لحماية المنتج المحلي، بل كانت تسهم في إضعافه.

وحتى عندما اتُخذت قرارات الحماية لم تُنفذ. ففي موازنة 2022، تم إقرار المادة 74 التي تنص على فرض رسم جمركي بنسبة 10% لمدة خمس سنوات على السلع المستوردة التي لها بدائل محلية، إضافة إلى السلع المصنفة «فاخرة»، لكن هذا القرار لم يُنفذ. سبب ذلك أن القرار لا يتضمن معايير واضحة للتطبيق ولتصنيف السلع الفاخرة، وأن الاتحاد الأوروبي مارس ضغوطاً واسعة لمنع تطبيقه.

فقد تحرّكت سفيرة الاتحاد الأوروبي فور إقرار المادة 74 وشروع وزارة الصناعة في إعداد لائحة بالسلع المفترض حمايتها، وزارت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي لتبلغه امتعاض بلادها من هذه الرسوم، مشيرة إلى أن الاتفاقية التجارية التي وقّعها الطرفان في عام 2006، ستتعرّض لضرر بسبب تطبيق هذا القانون.

لكن السؤال الآن هو، مع الفوضى التجارية التي تحدث في العالم، هل تستطيع سفيرة الاتحاد الأوروبي أن تقول نفس الأمر مجدداً فيما الاتحاد الأوروبي نفسه جزء من حرب تجارية تستخدم فيها التعرفات الجمركية لحماية بضائعه والرد على السياسات الأميركية؟

في الواقع، يظهر بوضوح أن تبنّي سياسات حمائية هو أحد الخيارات الأبرز لاستغلال هذه الفرصة السانحة اليوم. إذ يمكن للرسوم الجمركية المدروسة والدعم غير المباشر للصناعات الوطنية أن يعيدا توازن التجارة الداخلية، ويحولا الفائض النقدي الناتج من استبدال السلع المستوردة بتلك التي تُنتج محلياً أصلاً، إلى احتياطيات مصرفية تعزز من استقرار العملة المحلية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد