لا تكاد أمّة تنجو من الأميّة التاريخية. جادلت بعض الدراسات بالفعل بأنّ أوهام النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) يمكن استخدامها ـــ فرديًّا وجمعيًّا ـــ كآلية دفاعية لتجنّب الحقائق التاريخية والواقع معًا. على أنّ الأمر في بريطانيا وصل إلى الحد الذي تجاوز فيه هذا العمى مسألة الأضرار بقدرة البلاد على مواجهة الاستحقاقات الحالية، وانتقل إلى مستوى خلق أوهام تتسبب في مشكلات للمستقبل. في العقد الأخير، وبينما تصعد الأمم وتتحالف كي تتنافس، أضاعت بريطانيا وقتًا ثمينًا في توظيف النوستالجيا كسلاح. أصرت ثلّة الفاسدين المتسلسلين في حزب المحافظين الذين احتكروا الحكومة حتى تموز (يوليو) الماضي، على أنّ المملكة بحاجة إلى استعادة مجدها التليد، بدلًا من المضيّ قدمًا.
لا أحد يدري تمامًا من هي المستحاثة الحية التي أنتجت تلك الفكرة الغبية لـ «استعادة» تدابير إمبريالية عفا عنها الزمن. لكن كل ما كان لدى الحزب لحملته الانتخابيّة التي كانت محصلتها الأسوأ في كل تاريخه المديد، هو مونتاج للانتصارات البريطانية الحديثة يضمّ رئيس الوزراء ريشي سوناك (مهاجر هندوسي من الجيل الثاني)، وفريق كرة القدم الإنكليزي (لا الإسكتلندي أو الويلزي أو الإيرلندي الشمالي)، وهو الفريق الذي لم يفز ببطولة عالمية أو إقليمية منذ عام 1966، والملك (حفيد السلالة الألمانية التي تقترب من الانقراض)، وطائرتين مقاتلتين (من طراز إف 35 الأميركية الصنع)، وسيارة «أستون مارتن» (المملوكة من مستثمر كندي)، والتأكيد على أنّ «بريطانيا هي ثاني أقوى دولة في العالم». وهذا في أحسن الأحوال لا معنى له، وفي أسوأ الأحوال مجرد وهم يقوم على جيش قوامه 70 ألف جندي وترسانة نووية متهالكة في وقت تَعَمْلق أمم مثل الصين وروسيا.
مع ذلك، فإنّ أوهام «القوة العظمى» هذه تستمر وتعشّش في الداخل، حتى لو تمّت السخرية منها في الخارج حتمًا بفضل هيمنة ذات الثلّة من الفاسدين المتسلسلين خرّيجي جامعات النخبة في أكسفورد وكامبريدج على الإعلام الجماهيري في المملكة، ويستمتع الأميركيّون بتكريسها عبر الحديث عن «علاقة خاصة» تجمعهم بالمملكة المتحدة، رغم أنهم يحتفظون في الوقت عينه بعلاقات ربما أكثر خصوصية مع «إسرائيل» وكندا والمكسيك واليابان وكوريا الجنوبية وإيرلندا ومملكة آل سعود وإمارة الكويت والفليبين وألمانيا وعدد من الدول (التابعة) الأخرى في جميع أنحاء العالم.
في ظل هذه الغيمة الكثيفة من دخان الحشيش، لم يتبق للبريطانيين العقلاء من منفذ لنقد غباء النوستالجيا ورثاثة الواقع سوى الكوميديا. وهو ما فعله وباقتدار تام الروائي ميك هيرون في سلسلة «الخيول البطيئة» التي نشر أول أجزائها في عام 2010 توازيًا مع صعود المحافظين إلى السلطة، وتتوافر منها الآن ثمانية أجزاء أساسية مع عدد من الروايات الأخرى التي تدور في فلك السرديّة المركزية.
اختار هيرون أن يكتب نقده عبر حكايات مجموعة من الجواسيس الذين يرتكبون أخطاء قاتلة أثناء عملهم في وكالة الاستخبارات الداخلية البريطانية والذين لا يمكن فصلهم بسبب نظام الخدمة المدنيّة، فيتم التخلص منهم عبر نفيهم للعمل في مكتب ثانوي للاستخبارات في «سلاو هاوس» تحت إدارة الشخصيّة المثيرة للقرف وبطل السلسلة الرئيسي جاكسون لامب.
«سلاو هاوس» الذي يقع وفقًا للرواية بجوار منطقة برج باربيكان ـــ تحفة المعمار الوحشية الرأسماليّة في قلب لندن ـــ استعار الروائي اسمه من بلدة كئيبة قرب لندن، كان الشاعر جون بيتجمان يراها قبيحة ومحبطة إلى درجة أنّه كتب قصيدة للمطالبة بتسويتها بالأرض: «تعالي أيتها القنابل الصديقة واسقطي على سلاو! اضربي تلك المقاصف المكيفة، والفواكه المعلبة، واللحوم المعلبة، والحليب المعلب، والفاصولياء المعلبة، والعقول المعلبة، والتنفس المعلب، ودمري تلك الفوضى التي يسمونها بلدة». صوّره هيرون كجزء من مبنى متهالك يتم الدّخول إليه عبر زقاق رثّ يقود إلى ساحة قذرة ذات جدران عفنة، ويدخل الموظفون إلى مكاتبهم عبر باب عالق دائمًا يتطلب دفشة بالكتف أو القدم.
أما المكاتب، فليست أفضل بكثير: ديكور من خمسينيات القرن الماضي، وصناديق من لوحات المفاتيح المهجورة على الجدران، ومكاتب قديمة تتناثر عليها علب البيتزا الفارغة ويتمطّى حولها العملاء الذين يحلمون دائمًا بأن يكونوا في أي مكان آخر، فيما يحتلّ مكتب مديرهم الطابق العلوي ذا الروائح النتنة، بسبب بقايا الوجبات الجاهزة والسجائر المضروبة وعلب البيرة والغازات التي يطلقها لامب بينما يتمدد غافيًا على الكنبة هناك بلا عمل معظم النهار.
المزاح في المكتب ليس محترمًا ولا بناءً، والعلاقات بين الموظفين سخيفة ومعقدة وعدائيّة غالبًا، لكن هذه المجموعة من الجواسيس الغريبي الأطوار الساخطين يحقّقون في النهاية نتائج أفضل عمليًا من منسوبي المكتب الرئيسي للاستخبارات البريطانية ممن يرتدون بدلات أنيقة ويحملون سماعات في آذانهم ويتجولون في ردهات مبنى حديث ذي تجهيزات متقدمة، وإن كانت تلك النتائج تجيّر دائمًا لآخرين، وفقًا لألعاب السياسة ومداولات الكواليس.
في البداية، لم يلتقط القرّاء البريطانيون النقد اللاذع لأحوالهم في «الخيول البطيئة»، ولم تبع الرواية الافتتاحيّة سوى عدد محدود من النسخ، إلى درجة أنّ هيرون فشل في إقناع أيّ ناشر بريطاني بنشر بقيّة السلسلة. وهكذا كان علينا أن ننتظر فوزه بجائزة «الخنجر الذهبي» الأميركيّة المخصصة لأدب الجريمة كي تنتشر السلسلة وتصل إلى انتباه «أبل بلس» التي حوّلت الروايات إلى مسلسل تلفزيوني نال استحسان المشاهدين – والقرّاء – والنقاد أيضًا، وأطلقت الحلقة الأولى من موسمه الرابع مع بداية أيلول (سبتمبر) الحالي، على أن تُذاع بقية الحلقات الست أسبوعيًا. ويتكهّن الخبراء بأن شركة «أبل» في صدد إنتاج مواسم أربعة أو خمسة أخرى من بقية روايات السلسلة.
اللافت أنّ «الخيول البطيئة» تزداد لمعانًا مع تجدد مواسمها، بعكس معظم الأعمال التلفزيونية التي تبهت وتفقد روحها بعد موسم أو اثنين، ولا سيما تلك المتعلقة ببريطانيا ويمولها الأميركيّون. فهناك دائمًا ثيمات مستحدثة في كل موسم تعززها انعطافات مفاجئة، وشخصيات جديدة، لكن مع الحفاظ على الإطار الكلي، والخط الأساسي للسرد، وبعض الوجوه المألوفة حول لامب.
يلعب الممثل القدير غاري أولدمان، دور لامب، حاكم «سلاو هاوس» المتعب والقذر، فيما يؤدي جاك لودن دور موظفه الغرّ المثالي والحالم ريفر كارترايت (جاك لودن)، الذي هو حفيد العجوز المصاب بالخرف ديفيد كارترايت (جوناثان برايس) مدير لامب الأسبق.
لا يتأخر الموسم الجديد عن خطف الأنفاس سريعًا. بعد انفجار هائل في مجمع تجاري في قلب لندن، يَقتل العجوز كارترايت متسللًا إلى بيته يُشتبه بأنه حفيده. وهكذا يعود طاقم الجواسيس الفاشلين في «سلاو هاوس» إلى العمل لتفكيك مؤامرة كبرى جديدة، في لعبة ذكاء استخباراتي ومخاطرات يكونون معنيين فيها بالفوز أكثر من اهتمامهم بعواقب عملهم على العالم الحقيقي. يأتي كل ذلك في عرض حافل بالتليمحات السياسيّة الذكيّة، والسخرية الإنكليزية اللاذعة، والغراميات الخفيّة التي تقدّم جميعها ـــ رغم كلّ القذارة والشحوب والإهمال في «سلاو هاوس» ـــ على طبق شهيّ من التصوير المبهر.
السخرية في روايات هيرون - والمسلسل - سوداء قاتمة، والنغمة الغالبة هي انعكاس للمزاج الذي انتهى إليه البريطانيون بعد عقد ونصف عقد من سياسات التقشّف القاتلة، وما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ونتيجة حتمية للإخفاقات المتراكمة قي أداء حكومات السلسلة المتعاقبة من المهرجين في «10 داونيينغ ستريت» مقر الحكومة البريطانية في لندن: ديفيد كاميرون، وتيريزا ماي، وبوريس جونسون، وليز تروس وهذا الهندي الأخير الذي نسينا اسمه. وبالطبع، فإن إخفاقات الطبقة الحاكمة تبدو أقل قذارة عند النظر إليها عبر اتفاقيات الخيال الأدبي، لكنّها في الحقيقة تصل إلى درجة الجريمة الجنائية المرتكبة بحق سكان هذه الجزيرة.
من يتابع «الخيول البطيئة»، يلحظ سريعًا أنّنا تجاوزنا مرحلة التكاذب الذي مثّلته مرحلة أفلام الجاسوسية البريطانية وبطلها السخيف جيمس بوند. هنا ننسى الحرب الباردة، وتتضاءل مشكلات بريطانيا المعاصرة لتغدو أصغر بكثير من الصراعات الأيديولوجية الكبرى التي تجري على مسرح العالم، وأشبه ما تكون بمثالب قرية عزلاء منسية تورّط كبراؤها باجترار الخطايا الدينية وتكرار ارتكاب الموبقات. ليس «سلاو هاوس» إلا صورة بريطانيا في مرآة الفن: أمة من الخيول البطيئة، تطلق صخبًا دائمًا عديم الفائدة، وتتجول كسلى في مكاتب قديمة رطبة عفنة تذروها الرياح، مع بنية تحتية أساسية ملطخة بالإهمال، وفوقها طبقة حاكمة عزلت نفسها عن الفشل ـــ الذي تنتجه أدواتها ــــ في طابق علوي بعيد عن أعين الشعب، يملؤه ضباب من دخان الحشيش وأبخرة أطباق الكاري المستعارة من ماض استعماري عتيق. لكنها مع ذلك على استعداد للتدخل وحلّ مشكلات الآخرين في أفغانستان والعراق وسوريا وأوكرانيا وفنزويلا، أو حيثما أومأ إليها السيد الأميركي. إنّها ذات السلالة المستمرة من الغطرسة التي يخنقها شعور مستدام باستحقاق وراثة الأرض، ولكن من دون أن يكون لديها أدنى فكرة عما يجب فعله بها سوى تركها خرابًا وحروبًا دينية وحكامًا محليين مثقوبين.
تلخص السلسلة (الروائية) والمسلسل (التلفزيوني) وواقع المملكة المتحدة أيضًا، أغنية شارة البداية المذهلة لمايك ياغر (لعبة غريبة): إنها همهمة تثير الحزن عن الفشل المؤسسي والفساد السياسي والتفاوت الطبقي واليأس الذي تعيشه هذه الجزيرة، حيث لا عدالة ولا يوجد أحد جدير بالثقة، وحيث يزداد الأشرار ثراءً، ويموت الخيّرون والفقراء عبثًا.
* Slow Horses على «أبل بلس»