في أثناء انتظاره، طلب كوب عصير، وعمل على مخطّط لمشروعٍ جديد، ثم أخذ أغراضه وعاد إلى خيمته، ليعدّل الفيديو وينشره. يشرح ابن التاسعة عشرة، حيثيات الحياة في غزة اليوم، والتحايل على الاحتلال للوصول إلى ما يعدّ بديهيات. يردّد متابعوه سؤالًا عن كيفية نشره مقاطع الفيديو في ظلّ انقطاع الإنترنت، فيذهب إلى المقهى الذي يؤمّن خدمة «الوايفاي»، لكنه يدفع دولارًا لكلّ ساعة.
أمّا المال، فيحصل عليه الغزيون عبر تحويلات من أقاربهم وأصدقائهم من الخارج، ويحصل ميدو على المال عبر العملات الرقمية. في فيديو آخر له، كان يحضّر طبق «البابا غنوج»، ويشرح خطوات حصوله على المكوّنات. وأثناء الفيديو، تظهر حياة الخيم، ويوقف السرد ليسجّل صوت الطائرة الإسرائيلية. وفي مقطع آخر، يتّجه إلى مدينة دير البلح ليأخذ الأموال التي وصلت عبر متبرّع، ليشتري الأرز والدجاج، ويوصلها إلى أهالي الخيام. يروي ما يأكله الغزّيون اليوم، وكيف يغسل ثيابه في دلوٍ، وبهذه الطريقة أيضًا يستحم أو يستعيض عن الاستحمام بالسباحة.
اختار الزراعة كنشاط يوميّ له منذ منتصف حزيران (يونيو)، لأن الزراعة بالنسبة إليه «أداة مقاومة... وأنا أزرع حياة جديدة للأرض»، في وقت تأخذ فيه إسرائيل حيوات الغزيين. يزرع البطيخ، الملوخية، الفاصولياء والنعناع. اعتمد على الزراعة كنشاط حتى انتهاء الإبادة، بعدما ملّ السباحة ومشاهدة الأفلام كل يوم.
نقل ميدو مشاهد من الثامن من أكتوبر، مع بدء القصف الإسرائيلي على قطاع غزة، وما كان يبقيه هادئًا وسط الحرب، كان «كباية» شاي قرب البحر، وأغنيات أم كلثوم. وبهذا يهرب من الواقع كل يوم، لكن غالبًا ما يقطع الطيران الإسرائيلي هذه المحاولة.
كان لميدو أمل كبير بأن الإبادة ستنتهي، وكان يرى نورًا في نهاية هذا النفق. قبل الحرب، كان يدرس العلوم السياسية والاقتصاد في جامعة الأزهر في غزة. وبعد الحرب، قرر تصوير حياته ونقلها على مواقع التواصل. أول فيديو له من حياة خيمة كان في 21 أيار (مايو)، وآخرها كان في 25 آب (أغسطس)، قبل أن يُصاب بشظايا من جراء قصف إسرائيلي، ويستشهد بعد ساعات. وكان حليمي قد نزح مع والديه وإخوته الأربعة وأخته إلى منطقة المواصي في جنوب قطاع غزة.
في بعض مقاطع الفيديو التي صوّرها ميدو، ظهر صديقه طلال مراد، وراحا يرويان سويًا واقع الحياة أثناء الحرب. مراد أصيب بشظايا لكنه نجا، وقال مراد بعد استشهاد صديقه بأنّ جزءًا منه قد مات، لكنه سيعمل لإكمال إرثه. زيد شقيق ميدو وصف أخاه بالشخص الإيجابي والمحبّ للحياة. كان يعيش كل يوم بيومه، وحاول أن ينقل للعالم الجانب الإيجابي، وأن يقول إنّه مهما كانت الأوضاع التي يعيشون فيها صعبة، فهم يحبون الحياة. أما والده، فوصف ما كان يقوم به ابنه، بمحاولة جعل العالم يشعر بما يمرّ به الغزيون.
تعليقًا على استشهاد ميدو، قال الصحافي البريطاني أوين جونز بأنه «كان شابًا مفعمًا بالفرح وحبّ الحياة رغم أنّه عاش في الجحيم الذي لا يمكن لأحد تصوّره». وقبل أيام من استشهاده، حزن لاستشهاد ابن عمه أحمد، ابن الـ 11 ربيعًا، ونعاه إلى جانب كل الشهداء الفلسطينيين، وأنهى رسالته التي نشرها على حسابه على إنستغرام، بأنّ «كل واحد منهم كان له حياة، موهبة، آمال وأشخاص يحبونهم».
صار ميدو ذكرى جميلة عن التمسّك بالأمل والحياة من داخل خيمة
قدم تيك توك مساحة لأفراد عاديين ليظهروا أمام العالم، صوتًا وصورة، وجعل قصة كل واحد ملكًا للعامة. منهم من استخدمها لغايات ربحية، ومنهم، كميدو، استخدمها لنقل معاناة أهل غزة تحت الحصار. المنصة التي اشتهرت أثناء الحجر الصحي، بأنها موقع للرقص والترفيه، تحولت إلى وسيلة مواجهة. حتى إنّ وسم «فلسطين» و«غزة» كانا الأكثر استخدامًا على المنصة، ما أثار حفيظة الإسرائيليين، وهاجمها أعضاء في الكونغرس الأميركي من الحزب الجمهوري بدعوى أنّها «تروّج عمدًا للمحتوى المؤيد لفلسطين»، لترد المنصة ببيانٍ تنفي فيه أي تلاعب بالخوارزميات، مؤكدةً بأنّ مستخدمي التطبيق يؤيدون القضية الفلسطينية، وخصوصًا الجيل الشاب.
في مقابلة له مع موقع Fault Magazine، في السادس من حزيران (يونيو)، قال ميدو إنّه كان يشاهد مقاطع فيديو عن غزة على الإنترنت، وكانت جميعها حزينة وكئيبة. ولأنه شخص إيجابي، لم يعجب بأي من هذه المقاطع. لذا، قرّر إنشاء صفحة على تيك توك، والبدء في نشر حياته اليومية، والتركيز فقط على الجوانب الإيجابية.
كان يشعر أن حياته وأهدافه السابقة أصبحت بعيدة وغير قابلة للتحقّق، معتبرًا أنه فقد كل شيء. كان يطمح للالتحاق بجامعة أميركية أو أوروبية ومواصلة الإنجازات الأكاديمية، وعمل بجدية على طلبات الالتحاق بالجامعات، واستثمر في حياته المهنية المستقبلية، لكنه فقد هذه الفرصة بسبب الحرب.
كان ينتظر أن تنتهي الحرب. قال: «سأسعى إلى تحقيق أحلامي، مهما طال الوقت، حتى لو استغرقني 50 عامًا. هدفي هو تحقيق الكثير حتى يتذكر الجميع اسمي». اليوم صار ميدو ذكرى جميلة في عز الإبادة، عن قدرة شاب على الابتسام رغم الموت، والتمسّك بالأمل والحياة من داخل خيمة.