حتى بعد تركه تلك القناة – التي تعد الأهم عند الطيف اليميني من النخب الأمريكيّة – فقد أعاد فرض نفسه على الساحة الإعلاميّة من خلال برنامج حواريّ يبثه عبر تطبيق «إكس» ويتابعه على الهواء مباشرة أو من خلال الإعادة عشرات الملايين من المشاهدين، وهو بالطبع يستقطب المزيد منهم أسبوعيًا، مع ارتفاع حرارة الحملات الانتخابيّة للرئاسة الأمريكية، التي ستجري هذا الخريف، إذ يعتبر من أهم الإعلاميين – إن لم يكن أهمهم على الإطلاق – الذين تعتمد عليهم حملة الرئيس (السابق) دونالد ترامب ونائبه السناتور جي دي فانس كمنصة للوصول إلى الجمهور الأمريكي، ولذلك كان حضوره بارزًا في مؤتمر الحزب الجمهوريّ في يوليو / تموز الماضي.
في عين العاصفة
كارلسون غدا طوال الأسبوع الماضي نجم ساحة السياسة الأمريكيّة بلا منازع، ولم يتبق معلق تلفزيونيّ، أو شخصيّة سياسية، أو قناة فضائية، أو جريدة يومية في البلاد لم تتطرق إليه، وحتى البيت الأبيض نفسه اضطر للتصريح بشأنه من خلال المتحدث الرسمي باسم إدارة الرئيس جوزيف بايدن، لكن كل هذا الاهتمام جاء، هذه المرّة، لكل الأسباب الخاطئة. فقد تجرأ الرجل على أن يستضيف في برنامجه المؤرخ الجدلي داريل كوبر، والذي قدّمه كارلسون للجمهور بوصفه «أهم مؤرخ شعبي يعمل في الولايات المتحدة اليوم».
السيد كوبر، والذي يخاطب جمهورًا صغيرًا في الولايات المتحدة عبر «بودكاست» ورسالة إخبارية تسمى "مارتايار ميد" معروف بطروحاته المثيرة للجدل تحدّث إلى كارلسون حول عدة موضوعات تاريخية طارحًا مقاربة مغايرة للسردية السائدة في الغرب عن «الهولوكوست» والحرب العالمية الثانية، مشيرًا إلى أن ملايين الأشخاص في معسكرات الاعتقال «انتهى بهم الأمر موتى» لمجرد أن النازيين لم يكن لديهم موارد كافية لرعايتهم بسبب حصار الحلفاء لخطوط إمدادهم، وليس بالضرورة نتيجة لإبادة جماعية متعمدة أقدم عليها النظام النازي. كما ورأى أن ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت، وليس أدولف هتلر، كان «مسؤولًا بشكل أساسي عن أن تصبح تلك الحرب على ما انتهت إليه» من دمار شامل لأوروبا، ومقتل عشرات الملايين من الأشخاص، عسكريين ومدنيين.
شاهد الحلقة على الهواء وخلال الأيام القليلة التالية لعرضها أكثر من 30 مليون مشاهد، ويعتقد أنها ستتجاوز حاجز 50 مليونا في أي وقت هذا الأسبوع، لكن لم تمض لحظات من عرضها، لتنفتح على كارلسون وضيفه فوهة جهنّم، فسارع أندرو بيتس، المتحدث باسم البيت الأبيض، إلى إصدار بيان أدان فيه كارلسون، الذي «منح ميكروفون منصته الإعلاميّة لمنكر الهولوكوست، الذي ينشر بروباغاندا نازية تعد سادية وإهانة مثيرة للاشمئزاز لجميع الأمريكيين ولذكرى أكثر من ستة ملايين يهودي قتلوا في الإبادة الجماعية على يدي أدولف هتلر، وأيضًا لملايين الأمريكيين الذين قاتلوا لهزيمة النازية، ولكل ضحية لاحقة لمعاداة السامية».
قال بيتس إن إدارة الرئيس جوزيف بايدن تدين «الاتجار بهذا العفن الأخلاقي» الذي عدّه «غير مقبول في أي وقت، ناهيك عن أقل من عام واحد بعد المجزرة الأكثر دموية التي ارتكبت ضد الشعب اليهودي منذ الهولوكوست – يقصد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفي وقت ينمو فيه سرطان معاداة السامية في جميع أنحاء العالم».
وفيما حذف إيلون ماسك، الملياردير ومالك موقع إكس، تغريدة كان كتبها على موقعه اعتبر فيها المقابلة مع السيد كوبر «مثيرة للاهتمام للغاية» و»تستحق المشاهدة، شن معلقون تلفزيونيون وصحافيون وسياسيون من مختلف ألوان الطيف السياسي الأمريكي، يمينًا ويسارًا هجمات قاسية لا ترحم، على كارلسون وضيفه، تجاوزت التحفظ والنقد وأحيانًا إلى مرحلة توجيه الإهانات وإلقاء الشتائم، ولم تتمالك صحيفة «نيويورك تايمز» المرموقة نفسها ووصفت في مقالة غاضبة ادعاءات كوبر بـ»الكاذبة».
جريمة مساءلة التاريخ
لطالما كان علم التاريخ وموضوعاته مساحات متاحة للجدل وتعدد الروايات وتناقضها أحيانًا، حتى يمكن الزعم بأريحية اليوم بأن المعرفة التاريخية خيار فلسفيّ في الدرجة الأولى، يعتمد أساسًا وقبل أي شيء آخر على انحيازات المؤرخ في رؤية الأشياء ومنطلقاته الفكريّة ومرجعيته السياسيّة، بغض النظر عن أية حقائق موضوعية – التي يمكن دائمًا إهمالها، أو إعادة صياغتها أو وضعها في سياقات مغايرة لما كان عليه الواقع.
لكن النّظام الليبرالي الذي تكرّس مع انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وشيّد متعمدًا وبمشاركة فاعلة من آلاف الإعلاميين – والأكاديميين سواء بسواء – سردية تاريخية شاملة عن تاريخ النصف الأول من القرن العشرين، لم يكتف بالترويج لسرديته، مستغلًا هيمنته شبه المطلقة على مجمل وسائل الإعلام والجامعات ودور النشر الكبرى، وإنما فرضت حكوماته قوانين قاسية معلنة وسياسات حصار مموهة ضد كل من تسوّل له نفسه أن يشكك في أي من مكونات تلك السرديّة، وطاردت وحاكمت وسجنت، مفكرين بعضهم من الطراز الأول، حاولوا تنبيه العالم ومواطنيهم إلى جوانب من تاريخ نقيض يتم تغييبه لمصلحة تمتين السرديّة المعتمدة.
تشرشل والمسافة الفلكية بين السرديّة ونقيضها
خذ مثلًا مسألة ونستون تشرشل. يوجد عن رئيس الوزراء البريطاني السابق أكثر من 1600 كتاب تروي سيرته وإنجازاته، ومع أن الرجل لم يغب سوى منذ عقود قليلة، وأن أرشيفًا كثيفًا عنه يتوفر لدى عدد من المؤسسات البريطانية، إلا أن الصورة المرسومة له في تلك الكتب – كما عشرات الأفلام الوثائقية والسينمائية وآلاف المقالات – تضعه دائمًا في موقع أفضل زعيم بريطاني على الإطلاق، وبطلًا قوميًا للأمة.
ومع ذلك، فإن عددًا من الكتب لمؤرخين مرموقين – تعد على أصابع اليد الواحدة – قدّمت صورة مغايرة تمامًا عن تلك المثالية المدارة بعناية عنه، وكشفت اعتمادًا على الوثائق المؤرشفة ذاتها عن جرائم موصوفة ارتكبها تشرشل في المراحل المختلفة من سيرته المهنية، سواء بسبب التهور وانعدام الكفاءة أو لأغراض جرمية أخرى، لدرجة أن عدد الضحايا المباشرين نتيجة قراراته كقائد للبحرية البريطانية، ووزير في الحكومة، ورئيس وزراء لاحقًا، يتجاوز الملايين من أرواح البشر في إيرلندا وفلسطين ومصر وكينيا والهند وغيرها، حتى بعد استثناء الضحايا – من الجانبين – الذين سقطوا خلال الحرب العالمية الثانية.
لذلك؛ فإن تمجيده صنمًا مقدسًا يخدم مصالح وسردية النظام الليبرالي الأنغلو – ساكسوني، لكنه لا يخدم للموضوعية التاريخية قضية، ولا شك أن أحداثًا وشخصيات أخرى من تلك المرحلة من الزمان قد تكون بدورها بحاجة إلى تمحيص وتيقن وإعادة نظر في تفاصيلها، حتى تفهم في السياق الصحيح بعيدًا عن مطلق الحسم أو نهائية الإنكار كليهما وخارج نطاق حمى الانتخابات والصراعات السياسية المرحليّة.
يكاد المريب يقول خذوني
لكن حتى كارلسون، النجم التلفزيوني اللامع، والذي يستفيد نظريًا من التعديل الأول للدستور الأمريكي والحماية التي يوفرها لحرية التعبير، وجد بنفسه هذا الأسبوع هدفًا مشروعًا للقصف وسيدفع حتمًا ثمنًا لأنه في لحظة تجل تصرّف كما أعور في بلد عميان، استمع لحكايات عابرة للسردية بنصف عين، في وقت تتناقض فيه تلك الحكايات مع صورة عالم متخيل، اختارت نخبة العميان التي يعيش بينها أن تتبناها، وشيدت من حولها جدارًا يُمْنعَ تجاوزه.
على أن المؤكد أن هذه الانتفاضة المبالغ بها ضد كارلسون ستدفع كثيرًا من شبان جيل الإنترنت للبحث والتدقيق، وهذا قطعًا ليس في مصلحة النخب الليبرالية، ولا مصداقية سرديتها، التي أصبحت مثل مريب، ملتبس، ملفق، يقول خذوني.