في أسبوع واحد، عاشت فرنسا خياري اليمين واليسار كاتجاه عريض يؤشر إلى شكل المرحلة المقبلة، وخصوصًا في السنوات المتبقّية على ولاية الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. حدث ذلك بين المرحلتين الأولى والثانية من الانتخابات التشريعية المبكرة التي دعا إليها الرئيس الفرنسي، على خلفية الهزيمة التي تعرّض لها حزبه في انتخابات البرلمان الأوروبي في 10 حزيران/يونيو الماضي.
قبلها، كانت كلّ من إيطاليا وألمانيا وإسبانيا تعيش الصراع نفسه، بين يمين ويسار، وكانت تبدو فيه الأحزاب اليمينية في وضعية صاعدة داخل المجتمعات التي تعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة، وتخبّط في السياسات العامة التي تتأرجح تحت وطأة قضايا مركّبة تتفاعل فيها العوامل الثقافية بالمصالح الاقتصادية والتحوّلات الاجتماعية، وكل ذلك في بيئة استراتيجية وأمنية شديدة الخطورة، ترجمت مظاهرها في الحرب الأوكرانية، وما يرافقها من ضغوط على هذه الدول.
بعدها، حصد حزب العمال البريطاني فوزًا ساحقًا في مجلس العموم، وتمكّن بسرعة من إزاحة ريشي سوناك من رئاسة الحكومة، ووضع المحافظين في أسوأ وضعية ممكنة منذ عقود طويلة.
إذًا هو صعود متبادل لليسار واليمين في بيئة واحدة من الضغوط والأحداث والأزمات، وفي دول متشابهة من حيث المعطى الثقافي، والوضعية الجيوسياسية، بالترافق مع التحوّلات العالمية المؤثرة عليها وعلى مجتمعاتها. فما الاتجاه إذًا في أوروبا؟ صعود يميني أم يساري؟ وما مستقبل الهوية تحت وطأة ملف الهجرة، وكيف ينظر الأوروبيون إلى واقعهم الحضاري في بيئة عالمية تنحو باتجاه صراع حضارات يعتمل في قلبه الصراع على الموارد، والصراعات السياسية والأمنية وغيرها؟
المسألة الأولى اللافتة في هذا السياق هي عدم وجود اتجاه واحد على المستوى السياسي، فلا دومينو يساري أو يميني، إنما فوز للمعارضات، يمينيةً كانت أو يسارية. وهذا في حد ذاته معطى ثقافي بامتياز، يشير إلى الواقعية السياسية في مواجهة الأيديولوجيا. لكن هناك ملامح أخرى يمكن أن تقوّض هذه الفكرة، وتدفع إلى البحث أكثر عن محرّكات أخرى للأحداث والاتجاهات الشعبية.
ما تطلبه الشعوب
في أيلول/سبتمبر من العام 2023، نشرت مجلة "New Statesman" البريطانية مادة مهمة قالت فيها إن: "الجماهير تحاول تأكيد الكرامة والاختيار، في عالم من انعدام الأمن، وذلك من خلال المعارك بشأن سياسات الهوية". كان ذلك قبل أشهر من الاكتساح الساحق لحزب العمال في انتخابات مجلس العموم. تتأثر هذه السياسات بشكل واضح بتدفّقات الهجرة من ناحية، وبالتفاعلات المستمرة للبريطانيين من أصول أجنبية الذين وصلوا في مراحل سابقة إلى البلاد، وباتوا يشكّلون جزءًا لا يتجزأ من هوية البلاد، مع ما يعكسه ذلك في نفوس الآخرين الذين يرون هوية البلاد تتلوّن بألوان ثقافية مختلفة.
يومها اعتبرت المجلّة أن الدوافع الأساسية لسياسات الهوية تبرز إلى الواجهة، وسط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية المتصاعدة التي تجتاح الغرب، منذ الانهيار المالي عام 2008 (وهي أزمة لم تنتهِ مفاعيلها حتى اليوم على مستوى العالم كلّه)، والتي اتسعت بعدها الفوارق في الثروة والسلطة والوضع الاجتماعي بين أعلى 20% وأدنى 80% من الناس بشكل كبير. وهاتان الفئتان تقترعان بصورة مختلفة لأشخاص وأحزاب مختلفة، وبناءً على مصالح كانت مغايرة في الماضي، وباتت اليوم متناقضةً أكثر من أي وقت مضى، على وقع ما ذكرناه آنفًا.
أظهرت الانتخابات الأخيرة في الدول الأوروبية المذكورة حدة في الخطاب السياسي، وأكثر منه الحديث عن الاقتصاد والهوية، وهذان المجالان يُعدّان من محرّكات صناعة القرار في الدولة، وهو ما جعل النقاش السياسي في السنوات الأخيرة يبدو أيديولوجيًا بين اتجاه يساري الهوى في الخيارات والقرارات ومشروعات المرشحين، واتجاه آخر يميني الهوى، في المحددات نفسها. وقد أحدث ذلك التباسًا حول الاتجاه الحقيقي للمجتمعات الأوروبية الآن وفي المستقبل. ثم جاءت الانتخابات التي تضمنت نتائج متناقضة بين دولة وأخرى، لتقول إن لا اتجاه عارمًا من الاتجاه الآن. إنما مخاوف وهواجس ثقيلة ومخاطر عالية، والناس بين كل هذه المعطيات، تتحرّك باتجاه المعارضات، يمينيةً كانت أم يسارية، لغضبها من سياسات السنوات الأخيرة للحكومات التي كانت في السلطة.
وفق المنطق السائد اليوم في أوروبا، يتهم اليسار، اليمين باختلاق "حروب ثقافية" بهدف تحقيق سياسة "فرّق تسد"، في حين يختزل اليمين أي مشكلة في عودة اليسار الليبرالي، وما وصل إليه في الغرب من مظاهر اجتماعية وثقافية يقول المحافظون إنها مسار انتحاري للمجتمع والأسرة والدولة في مرحلة تالية.
لقد أتت سياسات الهوية والحرب الثقافية لتخلق انقسامًا متعدّد الاتجاهات، ليس بين يسار ويمين فحسب، بل في قلب كلّ منهما أيضًا، وترافق ذلك مع انقسام النظام السياسي الذي يشترك فيه الاتجاهان. إلا أنّ صراعًا طبقيًا يظهر من قلب الأحداث في هذه المجتمعات، وهو يدعم بدوره الحروب الثقافية اليمينية في مقابل سياسات الهوية اليسارية. إذ يعود جزء أساسي من الانقسامات الثقافية إلى جذور اقتصادية تحرّك الميل العام، وهي، وإن كانت لا تظهر بوضوح في النقاش السياسي اليومي، فإنها تخرج إلى العلن وتعلو أصداؤها بحدة مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية، وخلالها، وتغذّيها الحملات الانتخابية بالمواد اللازمة، والتجييش والتحريض الذي يصل في بعض الأحيان إلى إفراز مخاطر حقيقية من العنف السياسي، وقد بدا ذلك في محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق ومرشح الجمهوريين الحالي للانتخابات الرئاسية الأميركية، دونالد ترامب.
لكن مع ذلك، تجري هذه الحروب والسياسات والصراع بين اليمين واليسار، في قلب نظام رأسمالي واحد، حيث تم ترويض الناس على فكرة التخلّي عن حرّياتهم الأساسية وعن نواح قيمية أساسية وشعورية بالدرجة الأولى، كالإحساس بالكرامة، في العمل وفي العلاقة مع الدولة، وفي تفاعلات الاقتصاد، فتحوّلوا في كثير من الأحيان إلى كائنات استهلاك خيارها محدود بين اتجاهين يصبّان في مصير واحد، ووجهة بعيدة واحدة، لكن مع اختلاف في الطريق الأفضل المفضي إلى تلك الوجهة.
الجدير بالذكر أن هذا الترويض غير محسوس بصورة واعية من قبل الشعوب، بل إنه تسلل سرًا من قلب الصراعات الأيديولوجية القديمة لليمين واليسار، وللرأسمالية والاشتراكية، وللقوى الكبرى التي كانت ترعى هذا الصراع العالمي. وبعد انتصار الولايات المتحدة في نهاية الحرب الباردة، فإن الصراع داخل الرأسمالية الغربية، صار بين يمين آخر ويسار آخر، وهذا الأخير لا يشبه كثيرًا اليسار العالمي في حقبة الحرب الباردة. بل إنه يسار رأسمالي بمواصفات مختلفة تمامًا.
ووفق ذلك، حتى يضمن اليسار النجاح في المحطات الانتخابية المقبلة، عليه أن يخترق الطبقات المختلفة من المجتمع، ومعها الثقافات المختلفة، خصوصًا تلك الوافدة إلى المجتمع بصورة مستجدة. وفعل ذلك، يستبطن أيضًا ضرورةً أخرى تتمثّل في التفاعل الإيجابي مع هويات هؤلاء، وقضاياهم الملحّة، من باب الواقعية إن لم يكن من باب الموقف الأخلاقي، وهذا ما لم يكن حتى الآن على المستوى المطلوب بخصوص القضية الفلسطينية، التي تعني للعرب والمسلمين وغيرهم من شعوب العالم قضية حقّ لا جدال فيه، ولا مناص من اتخاذ موقف من الإبادة التي يشهدها الفلسطينيون منذ 7 أكتوبر 2023. الأمر نفسه ينسحب على اليمين، الذي ينتعش في بيئة الناخبين المحافظين في الأطراف، وبعيدًا من مراكز المدن الرئيسية.
استعادة ثقة الناخبين في الأولوية
يركّز اليسار الآن على محاولة استعادة ثقة الناخبين، في ظلّ ضغوط كبيرة، لا هوامش واسعة فيها لسياسات اجتماعية تتطلّب إنفاقًا عاليًا، وتحت وطأة ضغوط جيوسياسية هائلة، يغذّيها غياب صارخ للسياسات السيادية في أوروبا، ويبرز في ظل ضرورات أمنية تراها النخب الحاكمة أولويةً لهذه الدول، على حساب فتح الشراكات عبر العالم.
لقد كانت الكثير من الدول في أوروبا الغربية مستفيدة من علاقات سياسية واقتصادية إيجابية مع روسيا والصين، وها هي اليوم تتجه بصورة متزايدة إلى خيار المواجهة مع هاتين القوتين، بما تمثّلانه من حضور عالمي حامل للفرص والآمال. ومع ارتفاع أولوية الأمن في القارة العجوز، يجد الساسة، من اليسار الليبرالي تحديدًا، أنفسهم مضطرّين إلى السير في ركب الموقف الأميركي الدافع باتجاه المواجهة مع بكين وموسكو.
يحاول اليسار إخفاء ضيق الهامش هذا، تحت ظل خطاب استعادة الثقة واحترام كرامة العمل وإنجازات العمال وقوة النقابات. لكنّ التغيير الثقافي المطلوب لإحداث تبدّل إيجابي في الاقتصاد لا يزال قاصرًا عن تحقيق غاياته. بينما تقضم الشركات العملاقة، وتحالفات المال والأعمال مع السياسيين، آخر مكتسبات الطبقات الشعبية التي ناضلت أجيال من أجل تحقيقها في الماضي.
لكن حركة الثقافة بطيئة جدًا نسبة لحركة صناعة القرار السياسي، وربما تكون تلك معضلة لا حلّ واضحًا لها حتى الآن. إذ تفرز الثقافة المعطيات الأكثر واقعيةً، لكنها تعمل وفق ديناميات طويلة الأجل، بينما تتطلّب السياسة عملًا يوميًا واقعيًا، وبذلك فهي تتطلّب قادةً رؤيويين يستطيعون بقدراتهم استنباط الحاجات الثقافية البعيدة، قبل بروزها في الفضاء العام على شكل مطالب وميول واتجاهات عارمة تفرض نفسها في المحطات الانتخابية. ويأتي فشل النخب السياسية في إيفاء تلك المتطلّبات، كسبب للفوضى السياسية، وتقلّب الرأي العام بين اليمين واليسار، وفي اتجاهات تبدو متناقضة خلال فترات زمنية متقاربة. ثم إن المسألة ليست مطلقة وبسيطة بهذا الشكل، إذ إن طائفةً كبرى من السياسيين قد يعون مطالب الشعوب مبكرًا، لكنهم ينزعون باتجاه خيارات مصلحية أنانية، تبعدهم عن قصد عن مراد الناس، فيصطنعون خطابًا يساريًا أو يمينيًا، كغلاف جذّاب لمصالحهم السياسية المدفوعة بقوته، والمتعارضة معه في العمق.
الاقتصاد مفتاح معالجة الانقسامات
لذلك، فإن الإصلاح الاقتصادي وفق ما يحقّق مصالح العامة من الناس، هو المقدمة الصحيحة للحكم على التيارات المختلفة، وعلى الساسة المنتمين لها. هكذا يصبح مكشوفًا نهم النخب من التيارين المذكورين إلى تحقيق المصلحة، وحماسهم للحديث عن الإنفاق والضرائب والهجرة، وغير ذلك، في معرض خدمتهم فئة الـ20% من المستفيدين من السياسات الاقتصادية والاجتماعية القائمة، والتي لا تبدو مختلفةً بصورة حادة بين أحزاب اليمين واليسار في أوروبا. وهذا منطق يحاول الوصول إلى صورة عامة، أكثر من تعميم الحكم على مجمل ساسة اليسار واليمين، إذ لا بد من وجود قيادات صادقة في خطابها، حتى لو وصل إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار.
في النهاية هي فوضى في الهوية، وفوضى في الاتجاه، والكثير من الخوف الذي يحرّك الناخبين. خوف من أن دولة الرفاه انتهت في أوروبا، وأن المستقبل هو للبحث عن هجرة أوروبية إلى مواطن جديدة لا تزال تشهد حالة اليسر الاقتصادي التي تعوّدها الأوروبيون. وفي قلب ذلك، تجد أوروبا نفسها تتجهّز شيئًا فشيئًا عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا للحرب العالمية الثالثة. وهي تدفع إلى زيادة الإنفاق العسكري، ورفع تمويل حلف شمال الأطلسي، وتقليص الإنفاق الاجتماعي، وتحوّل التشريعات إلى اتجاه تيسير هذا النمط من تحضير البنية التحتية لتلك الحرب، ما لم يتغيّر شيء كبير في واشنطن. القوة المهيمنة أكثر من أي وقت مضى على فضاء شمال الأطلسي.