لطالما رافقت مسيرة المواجهة ضد العدو الصهيوني، والتي تخوضها المقاومة الإسلامية في لبنان منذ أكثر من أربعة عقود، مقولة إن هذه المقاومة لا تدافع عن لبنان وحده بل تأخذ على عاتقها واجباً التزم به العرب والمسلمون في مؤتمراتهم وشعاراتهم وبياناتهم يقضي بتحرير فلسطين والمسجد الأقصى والأراضي العربية المحتلة.
ولطالما تعرضت هذه المقولة لعمليات تهشيم ممنهجة على وقع تدرج خطوات التطبيع المحمومة بين "إسرائيل" ومعظم الدول العربية، واستهدفت هذه الخطوات تطويع الشعوب وليس الأنظمة فحسب وصولاً إلى استكمال دائرة الحصار على خط الممانعة وفرض واقع "التسوية" الشاملة في المنطقة، والقبول بمنطق التعايش مع ما سمي ب"حل الدولتين"، فتحول معظم العرب من طرف مفاوض إلى طرف منقاد يروّج للمنطق الصهيوني ويدعمه بكل قوة، مع أن هؤلاء يعلمون تماماً أن مآل الأمور سيقودهم إلى تسليم مقاليد أنظمتهم ومصائر شعوبهم للقيادة الأمريكية - الإسرائيلية.
وبما أن بنيامين نتنياهو قد أعلن الحرب على لبنان فهذا يعني أنه أسقط كل الخيارات، خصوصاً بعدما أبدى عزمه على "تغيير الشرق الأوسط" بالنار والدمار انطلاقاً من لبنان، ولعلّه يستند في ذلك إلى تفوقه العسكري والأمني والتكنولوجي، وإلى اطمئنانه بأن ما يقدم عليه يلقى دعماً وتشجيعاً من أهل الدار العربي والإسلامي، ولاعتقاده بأنه يخوض معركة العالمين الغربي والعربي ضد محور المقاومة، بما يقود إلى تصنيفه قوة عظمى جديدة وإلى تنصيبه ملكاً على المنطقة يسوس أنظمتها ويحقق حلم أسلافه التلموديين.
يلعب نتنياهو في الحرب التي تؤرخ الأيام القليلة المقبلة ختام عامها الأول بأوراقه كلها، ولا ريب لديه في أنه يقامر بمستقبل "إسرائيل" ووجودها، ويعلم بأنه بالغ في تسلّق الأسقف المرتفعة التي يصعب النزول عنها إلا بالسقوط الحر "chutte libre"، وما استعادة أسطورة "إسرائيل الكبرى" في الأدبيات السياسية الصهيونية إلا ترجمة لهذه الأسقف التي تعني المواجهة الشاملة بين محورين لا نقطة التقاء بينهما.
ولا ريب في أن نجاح نتنياهو باغتيال عدد من قادة المقاومة وعلى رأسهم الأمين الشهيد سماحة السيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) قد جعله يعيش حالة من "النشوة" التي تحثّه على المضي في نفق النار، ولكن حسابات الميدان تختلف عن تعداد الأمنيات، فلطالما ارتفعت أسقف العدو في بداية كل معركة مع المقاومة، ليعود ويتنازل تدريجياً وصولاً إلى الإقرار بالهزيمة والانكفاء.
تشهد محطات الانتصار لأكثر من أربعة عقود على أن المقاومة في لبنان لم تلقِ سلاحاً ولم تدِر ظهراً لقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين والقدس، بل كانت وما تزال رأس الحربة في مشروع المواجهة الذي اتّسع محوره ليتحوّل إلى جبهة واسعة تحاصر كيان الاحتلال، وتكفي نظرة بسيطة إلى تكتل القوى المتشكل من أنظمة عربية وغربية وصهيونية، والذي تقف أمامه جبهة المقاومة لندرك حجم المواجهة ومحوريتها الإستراتيجية على مستوى الهدف والنتيجة .. إنها حرب مصيرية بكل ما للكلمة من معنى وجودي، لا مكان فيها لأنصاف الحلول، اللهم إلا إذا راجع السيد الأمريكي حساباته وأعاد ذئبه المسعور إلى حظيرته.. وفي كلتا الحالتين ستكون الغلبة الحاسمة للمقاومة مهما بلغت التضحيات.