قبل عشر سنوات، كانت تبثّ خطبةً كبرى استمع اليها الملايين، ولكن تلك كانت في النّجف في حزيران 2014. كانت «داعش» قد أسقطت الموصل والشمال وقواتها تتمدّد بلا رادع، والجّيش قد انهار، وأخبار المجازر والسّبي تصل تباعاً، فيما اللاجئون يملأون الطرقات. وصف العراقيون كيف كانوا متحلّقين يومها، في موطنهم وفي المهاجر، حول الأخبار وهم في حالة ذهولٍ وخوف، لا يعرفون اين ستصل الأمور. يوم الجمعة كانت «أمّة لا اله الا الله» مجتمعةً في الصّحن الحيدري، وترى في صفوف المصلّين كلّ الوجوه: الموظّف النجفي، المزارع، ابن الرّيف العشائري، الشيخ والتّاجر… كانت الكاميرا المتحرّكة تصوّرهم من أعلى وكلّهم في صمتٍ ووجومٍ، فيما الخطيب يشرح لهم ما معناه أنّ «البرابرة» قد اخترقوا الأسوار. ثمّ ارتفعت نبرة الخطابٍ شيئاً فشيئاً ليعلن الشّيخ أخيراً، أمام العيون الشاخصة، عن صدور فتوى الجهاد الكفائي، وهنا انقلبت كلّ الملامح. يقول من كان على الأرض أنّه، منذ اليوم التالي، تدفّقت كمياتٌ من المتطوّعين لم يقدروا على التعامل معها وايوائها، ناهيك عن تدريبها وتسليحها.
كان هناك شيئاً شبيهاً في خطبة الجمعة أمس في مصلّى طهران. الجّموع قد ملأت المسجد وفاضت الى خارجه، تعلو بينهم أعلام فلسطين ولبنان، ورايات «حزب الله» وصور السيّد الشهيد. كانت الكاميرا تجول على الصفوف الأمامية حيث يجلس المسؤولون والقادة: هذا واجمٌ قلق، ذاك في وجهه شرود، آخر يبكي. هم ينتظرون السيد الخامنئي لكي ينعي السيد حسن، صديقه ووكيله، وهم ايضاً في انتظار ضربةٍ وحربٍ لا يعرفون منتهاها. سبب الخطبتين والجمع الكثيف، في طهران وفي النجف، كان ظهور تهديدٍ جماعيّ محدق يحتاج بدوره الى استجابة جماعيّة. سيقال الكثير في المستقبل عن هذه الأيّام وما أثمرت، وكيف عبرت المنطقة بأكملها من عهدٍ الى عهد، وماذا فعلنا بعد الصّدمة. اليوم هو ليس الوقت لكي نشرح كيف ستتغيّر بنية تنظيماتٍ مثل «حزب الله»: يستشهد الكوادر التاريخيّون فيحلّ مكانهم كوادر جدد، شبابٌ وعسكريّون، وسريّون لا نعرفهم. سوف يكون «حزب الله جديد» استشهد أكثر «عقلائه». واليوم ايضاً ليس الوقت لنوضّح كيف تجهد اسرائيل لجعلنا نخلط بين الانجازات الأمنية والاستخبارية التي تحقّقها وبين النّصر العسكري والاستراتيجي. هناك فارقٌ نوعيّ بين الاثنين، والضربات والاغتيالات - مهما كانت موجعة وفعّالة - ليست بديلاً عن الكسب الحقيقي على الأرض وتغيير ميزان القوى ولا تقوم مقامه (وإن كان يمكن للأولى أن تؤدّي الى الثانية).
لكلّ فعلٍ ردّة فعل ولكلّ تحدٍ استجابة وجوهر الخطبة - باختصار - كان في ظهور السيد علي الخامنئي متّكئاً على السّلاح. شرح لشعبه وشعوب المنطقة أنّهم أصبحوا في معركة كبيرة، وأنّ واجبهم القتال والمواجهة، فالعدوّ على الأسوار. ثمّ أبّن رفيقه السيّد نصر الله وأعلنه، مع اسماعيل هنيّة وقاسم سليماني، رمزاً وذخيرةً للمرحلة القادمة. إن كانت اسرائيل وأميركا «مجنونة» كما يقولون فإن عليك أن تتعلّم العيش في عصر الجنون، وليس أمامك الّا أن تهزم الرّعب بالرّعب حتّى تألفه وتروّضه. لن يتوقّف العدوّ وهو في لحظة المدّ والسّطوة والحلم ب»إعادة رسم المنطقة»، ولكن الملايين البارحة قد سمعوا نداءً يدعوهم الى السّلاح - «من ايران الى اليمن ومن أفغانستان الى غزّة» - وعدوّهم هذه المرّة أشرس من «داعش» وأخطر.