الكثير من الرسائل والأبعاد يمكن استنتاجها، بعد مرور عام على معركة "طوفان الأقصى"، بين المقاومة الفلسطينية التي ساندتها الأطراف الرئيسة في جبهة المقاومة من جهة، وبين العدو "الإسرائيلي" من جهة أخرى، من دون أن يحقق الأخير أيًا من أهدافه الأساسية التي وضعها لعدوانه الواسع على غزة، ولتشكل اليوم المواجهة المباشرة بين حزب الله وبين العدو "الإسرائيلي"، الوجه الأكثر حساسية وأهمية من أوجه هذه الحرب وتطوراتها، خلال هذا العام.
هذه المواجهة المباشرة اليوم، بين حزب الله وبين وحدات العدو على حدود لبنان الجنوبية مع فلسطين المحتلة، بدأت تفرض نفسها استثنائيًا، وبشكل حساس، من ناحية تطور مستوى الاشتباك عسكريًا وجغرافيًا. وذلك؛ من ناحية ما حققه وما لم يحققه العدو في هذه المواجهة من أهداف، ومن ناحية ما استطاع حزب الله أن يبرهنه ويفرضه حتى الآن، وخاصة في مرحلة التصعيد الأخيرة التي لجأ إليها العدو بعد منتصف شهر أيلول/سبتمبر الماضي.
لناحية تطور مستوى الاشتباك عسكريًا وجغرافيًا؛ يمكن القول إنّ هذه المواجهة تجري اليوم في اتجاهين: الأول اختاره وفرضه حزب الله، خيارًا هجوميًا عبر الاستهداف الصاروخي والمسيّر، والثاني اختاره العدو وفشل في فرضه، وهو عملية التوغل البري داخل الأراضي اللبنانية.
الاتجاه الأول، والذي نجح في فرضه حزب الله، هو الاستهداف الصاروخي والمسيّشر لمنطقة شمال فلسطين المحتلة بكاملها، والمحددة جغرافيًا من الحدود اللبنانية حتى مشارف "تل أبيب"، ومن سواحل فلسطين المحتلة الشمالية حتى الخط الفاصل بين جنوب بحيرة طبريا والجولان السوري المحتل، بما تحويه هذه المنطقة من قواعد ومراكز عسكرية للعدو، ومن مستوطنات ومجمعات سكنية وصناعية.
اللافت، في هذه المناورة، هو تصاعدها وتطورها تباعًا، مع تصاعد مستوى الاستهداف الجوي المدمر الذي ينفذه العدو لمناطق الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت. وفي الوقت الذي يهدف العدو من تركيز دائرة القصف الجوي جنوبًا، إلى إسكات قواعد إطلاق الصواريخ والمسيّرات على شمال الكيان ووسطه، وإلى تدمير بنية المقاومة الدفاعية على الحدود وإضعافها، ازدادت وتوسعت وتيرة مناورة الاستهداف التي تنفذها المقاومة، في الجغرافيا وفي أنواع الصواريخ والمسيّرات، وفي مدياتها وشعاعها وقدرة تأثيراتها.
لناحية الاتجاه الثاني، والذي هو عملية التوغل البري التي قرر العدو تنفيذها، فهو اليوم، وبعد مرور أكثر من أسبوعين على إطلاقها، عمليًا وفعليًا على الارض، ما يزال يحاول عبثًا فتح ثغرة حدودية والسيطرة عليها لتأمين دخول دباباته وآلياته المدرعة منها والانطلاق بهذا التوغل البري شمالاً. ومع تعدد محاولاته لإيجاد هذه الثغرة من دون أن ينجح في أي منها حتى الآن، بالرغم من نقل هذه المحاولات الفاشلة من القطاع الشرقي (بين العديسة وكفركلا) حتى الغربي (بين الناقورة واللبونة) مرورًا بالأوسط (بين مارون الراس ويارون)، يسقط له الكثير من القتلى والمصابين، خاصة من وحدات المهام الخاصة التي يكلفها بعمليات الاستطلاع المباشر بالنار، بعد أن أُجبر على أن يزجّ تباعًا بأغلب فرقه المدرعة، لتصبح قدراته البرية بكاملها تقريبًا، مكدّسة ومنتشرة في المنطقة الشمالية من الكيان، بين خط طبريا - حيفا جنوبًا، وبين الحدود مع لبنان شمالاً.
اليوم، وبعد أن استطاع حزب الله فرض مناورته القتالية هجوميًا بالصواريخ والمسيّرات، بخلاف ما أراده العدو، من خلال السيطرة بالنار على شمال فلسطين المحتلة كاملة مع مستوطناتها، وبعد أن استطاع فرض موقف دفاعي صلب وأثبت بقوة على الحدود، في مواجهة أكثر قدرات العدو الهجومية، يمكن القول إن المقاومة الإسلامية في لبنان قد أفرغت معركة العدو من مضمونها، واستطاعت فرملة استراتيجيته التي أراد من خلالها فرض شروطه عبر التدمير والقتل وتهجير المدنيين، لترتفع فرصة نجاح المسار التفاوضي الذي حدده مؤخرًا نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، برعاية وعناية دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري.