(علي رعد \ موقع العهد الإخباري)
على الرغم من المصاب الجلل والأليم الذي ألمّ بلبنان المقاوم والشعوب الإسلامية بعد استشهاد قائد المقاومة الإسلامية السيد حسن نصر الله وبعض من رفاقه على يد العدو الإسرائيلي، فإنّ هيكلية المقاومة مؤهلة لتستولد قادة جدد يملؤون الفراغ الذي حلّ بالقيادة في القريب العاجل. وقد تجلّى ذلك بوضوح في كلمة متلفزة لنائب الأمين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، حيث أشار إلى أن المقاومة ستقوم باختيار أمينٍ عامٍ جديد وفقاً للإجراءات المتبعة سابقاً، وأكّد بأنّ هيكلية وبنية وقدرة المقاومة لا تزال بخير، وستبقى تساند غزة وتدافع عن لبنان الذي يستبيحه العدو "الإسرائيلي".
تفاجئ المقاومة الإسلامية في لبنان "إسرائيل" بين الحين والآخر باستهدافها الأراضي المحتلّة، وقد بدا لافتاً في الآونة الأخيرة بدء المقاومة باستهداف حيفا ويافا (تل أبيب) بصواريخ باليستية، وذلك رداً على العدوان "الإسرائيلي" الوحشي على لبنان، والذي أسفر عن سقوط الآلاف من الجرحى والشهداء.
مما لا شكّ فيه أنّ العدوان "الإسرائيلي" الشامل الذي يشنّه جيش العدو هو عدوان غير مسبوق في الكيفية والغائية على مستوى الصراع، بل يُعدّ الأكثر وحشيةً في مسار الحرب التي تُخاض بين المقاومة اللبنانية "وإسرائيل"، بيد أنّه يعكس في نفس الوقت مدى فعالية جبهة الإسناد اللبنانية التي أطلقتها المقاومة في 8 تشرين الثاني 2023.
بعيداً عن الأساليب الأمنية والإجرامية التي تعتمدها "إسرائيل" في تحقيق بعض الإنجازات الأمنية والتكتيكية، يبقى السؤال الأهم هو ماذا تريد "إسرائيل" من جرّاء هذا العدوان الشامل؟ وهل أصبحت جاهزة ومؤهلة لتغيير ميزان القوى الحالي؟ وهل يعني أنّها من خلال هذا العدوان ذات صفة الإبادة الجماعية تُمهّد لحرب واسعة مع لبنان من أجل استعادة الردع على جبهتها الشمالية وبالتالي إعادة مستوطنيها؟ فتصريحات العدو "الإسرائيلي" على لسان قادته تنذر بأن هناك مقدمات تمهيدية تجري على قدم وساق من أجل تكريس تغيّرات عسكرية على الجبهة الشمالية، وخصوصًا بعدما أعلن رئيس حكومة العدو "الإسرائيلي"، أنّه يسعى من حربه مع لبنان إلى تغيير ميزان القوى الحالي.
أولاً: إنّ الحكم على العدوان "الإسرائيلي" سيتوقف على نتائجه الإستراتيجية لا على الوسائل التي استخدمها، فالأيام والأسابيع القادمة سترسم المسار للمرحلة المقبلة. وفي وقت سابق، أعلن قادة العدو بطريقة غير مباشرة أنّ هدف العدوان على لبنان هو إعادة المستوطنين "الإسرائيليين" إلى شمال فلسطين المحتلّة. ولكن سرعان ما أتى الرد من قيادة المقاومة بأنّ "اسرائيل" لم ولن تستطيع إعادة المستوطنين "الإسرائيليين" إلى شمال فلسطين. وهذا يدلُّ بما لا يدَع مجالاً للشك على أنّ "إسرائيل" قد وقعت مرّة أخرى في الفخّ الإستراتيجي رغم تفوّقها التكنولوجي والاستخباراتي، فقد حاصرت نفسها بهدف لا يمكن أن تحققه بالتهديدات والقوة العسكرية. وبالتالي، إنّ هذا الهدف المعلن من قبل العدو يدلّ على أنّ قادة العدو لم يأخذوا الدروس والعِبر من الحرب الدائرة في غزة. بل ولم يدركوا أنّ نقل ثقل المعركة إلى الشمال سيمثّل فرصة حقيقية للمقاومة لمقارعتهم وإجبارهم على الدخول في معركة استنزاف طويلة الأمد على غرار ما يحدث في غزّة حاليًا. أضف إلى ذلك، أنّ الدخول في معركة استنزاف يعاكس العقيدة الأمنية التي قام عليها "الكيان الإسرائيلي"، إذ تقوم هذه العقيدة الأمنية على عدة أعمدة: الردع، والإنذار، والحسم، وحماية الجبهة الداخلية، وحتّى هذه العقيدة أُسقطت في طوفان الأقصى وفي جبهات الإسناد التي أطلقتها جبهة المقاومة، وأُجبر العدو على الدخول في معركة استنزاف طويلة لا أفق له فيها. وقد تحدّى قادة المقاومة "إسرائيل" مؤكدين أنّ هدفها المنشود الذي أعلنته سيفشل حتّى لو أدى ذلك إلى تضحيات جسام. وهكذا، ومع الأيام سيدرك العدو في ما بعد أنّه يستعد لأكبر إخفاق إستراتيجي في تاريخه، بل إن لم نقل للخراب الثالث الذي أصبح جزءاً من أدبيات العدو.
ثانياً: تريد "إسرائيل" من خلال العمليات الأمنية والاعتداءات الجنونية التي تقوم بها أن تُحدث صدمة عميقة من شأنها أن تمهّد إلى انهيار إدراكي (Cognitive Decline) لدى المقاومة وجمهورها. يصرّ العدو على استهداف المقاومة وبيئتها في المجال المعرفي بهدف التأثير على الإدراك لدى كل فرد، كما يحاول أن يضعف ثقة المجتمع بالمقاومة من خلال عنصر الصدمة. وهذا جزء من الحرب المعرفية التي تُبثّ في مجتمع المقاومة. إنّ فهم ديناميكيات الحرب الإدراكية (Cognitive Warfare) والمعلوماتية أمر بالغ الأهمية في مواجهة التأثيرات الخارجية لتحصين المجتمع وخصوصًا خلال الحروب.
في وقت سابق، صدرت دراسة برعاية "حلف شمال الأطلسي" تناقش هذا الشكل الجديد من الحروب. تتطرّق الدراسة نفسها إلى الحرب وتقسّمها إلى خمسة مجالات: الجو، والبر، والبحر، والفضاء، والإنترنت. وتضيف الدراسة مجالاً جديدًا عنوانه "المجال البشري". يُعرّف الباحثون الحرب الإدراكية أو المعرفية بأنها الأنشطة التي تُنفذ بالتوازي مع أدوات القوة الأخرى، بهدف التأثير في المواقف والسلوكيات من خلال تعديل إدراك الأفراد والجماعات، وذلك لتحقيق مزايا معينة على الطرف المستهدف، حيث تسعى عمليات المجال المعرفي إلى الاستيلاء على العقول، وتغيير أفكار وإدراكات الخصم لتشكيل قراراته وأفعاله، وهذا ما سيؤدي في نهاية المطاف إلى استنزاف إدارك المجتمع وقادته. يعرّف فرانسوا دو كلوزيل، الضابط العسكري الفرنسي السابق، الحرب المعرفية بأنها "فن استخدام التكنولوجيا لتغيير إدراك الأهداف البشرية"، إذ تبدأ بالمعلومات التي تُعدّ وقوداً للحرب الإدراكية. وبعبارة أخرى، إن "الحرب الإدراكية ليست مجرد كلمة أخرى أو اسم آخر لحرب المعلومات. إنها حرب على "معالجنا الفردي"، أي الدماغ. ويؤكد كلوزيل أنّ الحرب الإدراكية ليست مجرد معركة ضد ما نفكّر فيه، بل هي معركة ضد الطريقة التي نفكّر بها، أي تغيير طريقة التفكير التي يفكر بها الناس. وتُعدّ أقوى وأعمق من الحروب المعلوماتية والنفسية. ويصف باحث آخر في "الناتو" الحرب الإدراكية بأنّها "طريقة لإلحاق الضرر بالدماغ". وتنطوي الحرب الإدراكية على التضليل المعلوماتي والنفسي والهندسة الاجتماعية(Social engineering). وفي نهاية المطاف، يمكن أن تحفّز الحرب الإدراكية الأفراد على التصرّف بطرق تؤدي إلى تعطيل أو تفتيت مجتمع متماسك لديه معتقدات ومبادئ يؤمن بها.
وهنا نودّ أن نقول، إنّ الحرب الإدراكية التي يشنّها العدو "الإسرائيلي" من خلال عدوانه الشامل على لبنان لن تنجح وستكون مصيرها الفشل، لأن المجتمع محصّن بعقيدة المقاومة والتضحية والثوابت الوطنية التي تحمي لبنان بكلّه وكلكله. وإنّ بعض المنظرين في العلاقات الدولية يؤكدون أنّ الشعور القومي (nationalism) لدى المجتمع هو المحرّك والقوة الرئيسية لدفع وهزيمة عدو يتفوق بالعناصر المادية في مختلف المجالات، لذلك فإنّ العنصر الروحي في القتال هو المُحدد الأول للنصر، بل ويمكن القول، إن هذا الأمر بات من السنن التاريخية غير القابلة للدحض.
ثالثاً: التاريخ يثبت أن المقاومة لديها من العزم والإرادة ما يمكّنها من الصمود والثبات بوجه العدو "الإسرائيلي"، فالعمليات الأولى التي أطلقتها المقاومة ضدّ العدو "الإسرائيلي" تخبرنا بأنّ السلاح التقليدي غير المتكافئ الذي امتلكته في البداية يصبح سلاحًا فتاكًا بأيدي الزنود السمراء وأصحاب العقيدة والروح القتالية، وهذه ليست جمل إنشائية لرفع المعنويات، هذا واقع عشناه ونعيشه كلما اشتدّ الوطيس. يجب ألا نغفل عن أنّ المنتصر في الحرب هو من يفرض إرادته على الآخر، فإرادة القتال هي الجوهر التي يجب أن تبقى حاضرة حتى لو كان العدو متفوقًا ماديًا، فهذا لا يعني على الإطلاق أنّه سينتصر والشواهد كثيرة على ذلك.
ختاماً، إنّ حزب الله يدرس خياراته جيّداً بشجاعة وحكمة ويتقدّم بأهدافه بتؤدة لردع العدو عن الجنون الذي بدأ به، لذلك، إنّ الأيام القادمة وما تحملها من تطورات ستبعث برسالة للقاصي والداني مفادها أنّ المقاومة لا تُكسر ولا تنثني، على الرغم من سقوط قواعد الاشتباك السابقة، حتى لو أفضت تعقيدات الحرب إلى توسعة شاملة من أجل استعادة الردع (Deterrence). فالمقاومة صامدة أمام التهويل والحروب النفسية التي تُشن عليها بكل الوسائل. ومع تزايد الاعتداءات "الإسرائيلية" على مختلف المناطق اللبنانية، بدأ الجيش "الإسرائيلي" عملياته البرية التي تهدف إلى إنشاء حزام أمني داخل الأراضي اللبنانية يمتد حتى نهر الليطاني. وعلى فرض أنّ العدو يفكر في الإقدام على مثل هذه الخطوة، فهذا سيكون بمنزلة هدية للمقاومة، فغالبًا ما يتمتّع المدافع بمميزات عسكرية وتكتيكية على المهاجم، وخير دليل على ذلك، الحروب التي خِيضت بين المقاومة "وإسرائيل". لقد عوّدتنا المقاومة اللبنانية من خلال أسلوبها القتالي والاستثنائي وروحيتها العالية على تحويل التهديدات إلى فرص حقيقية للتفوق على هذا العدو وإسقاط أهداف حربه وبالتالي هزيمته إستراتيجياً.
تعيش "إسرائيل" حالة من السُكر المرحلي ظنّاً منها أنها تحقق أهدافها من جراء العدوان الذي تشنّه على غزة ولبنان، لكن سرعان ما ستدرك أنها لن تحقق أهدافها الإستراتيجية، وخصوصًا بعدما استعادت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الردع من خلال استهداف القواعد العسكرية والأمنية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، وذلك ردًا على اغتيال القائدين المجاهدين السيد حسن نصر الله وإسماعيل هنية. فهل تحمل الأيام القادمة تصعيدًا خطيراً إذا قامت "إسرائيل" بالرد على الرد؟.