قتل الفلسطينيين لا بل إعدامهم ميدانياً دائماً موضع شك في الغرب إلى أن يثبت العكس. وفي حال توافرت الأدلة التي تثبت وقوع جرم متعمّد (كون سكان غزة في نظر الإعلام الغربي يموتون طبيعياً، ما خلا بعض حالات القتل التي يصعب نكرانها ولكنّها تكون دوماً غير مقصودة أو عن طريق الخطأ والمصادفة) فإن التحقق منها واجب... لكن أكثر من مرة! والتدقيق هنا ليس من باب المهنية والأمانة والموضوعية، بل بسبب العقلية التي تشكّك في الأساس بأنّ «الجيش» الإسرائيلي قادر على القتل العمد، وخصوصاً للأطفال. هنا التمسك بالمعايير القانونية يكون بحذافيره حيث المتهم بريء إلى أن تثبت إدانته.
نشرت جريدة «نيويورك تايمز» الأميركية قبل حوالى أسبوع مقالاً للدكتور الأميركي من أصل باكستاني فيروز سيدهوا يتضمن استبياناً من 65 شخصاً من العاملين الأميركيين في مجال الرعاية الصحية ممّن خدموا في غزة بعد 7 تشرين الأول من العام الماضي وشهاداتهم لما عاينوه في القطاع. وسبق للدكتور سيدهوا أن وجه رسالةً مفتوحة للرئيس الأميركي بايدن ونائبته كامالا هاريس في شهر تموز (يوليو) المنصرم وتحمل توقيع 45 طبيباً وممرضة أميركيين وتتضمن مشاهداتهم لما رأوه أثناء خدمتهم في غزة.
يكشف سيدهوا في مطلع مقالته أنه عمل في المستشفى الأوروبي في خان يونس لمدة أسبوعين، من 25 آذار (مارس) حتى 8 نيسان (أبريل) المنصرمين، وقد سبق له أن تطوّع في أوكرانيا وهايتي، وخدم في مناطق الصراعات وكان شاهداً على الكثير من العنف. «ولكن من بين الأشياء العديدة التي برزت أثناء العمل في المستشفى في غزة، لفت انتباهي شيء واحد: في كل يوم كنت فيه هناك تقريباً، كنت أرى طفلاً صغيراً جديداً أصيب برصاصة في الرأس أو الصدر، وجميعهم ماتوا. ثلاثة عشر في المجموع». افترض الدكتور أن هذا الإجرام «من فعل جندي سادي بشكل خاص كان موجوداً في مكان قريب»، إلى أن تبيّن له أن المسألة أكثر خطورة ومرتبطة بعمل ممنهج بعدما أبلغه طبيب آخر يعمل في مستشفى مختلف أنه صادف الحالات عينها.
يظهر الاستبيان أنّ «44 طبيباً وممرضاً ومسعفاً رأوا حالات متعددة لأطفال في سنّ ما قبل المراهقة أصيبوا برصاصات في الرأس أو الصدر في غزة». ويكشف الدكتور نضال فرح أنه «ومن واقع خبرتي، فإن جرح الرصاص كان في غالبية الأحيان في الرأس. وكان عدد منهم مصابين بتلف دائم في الدماغ لا يمكن علاجه. وكان من الشائع أن يصل الأطفال إلى المستشفى مصابين بطلقات نارية في الرأس». وقال الدكتور مارك بيرلموتر جراح العظام واليد، من نورث كارولينا: «رأيت عدداً من الأطفال مصابين بطلقات نارية عالية السرعة، في كل من الرأس والصدر». ومن الشهادات أيضاً شهادة الدكتورة أهلية قطان التي رأت «طفلة تبلغ 18 شهراً مصابة بطلق ناري في رأسها».
ضم المقال ثلاث صور أشعة قدمتها الدكتورة ميمي سيد التي عملت في خان يونس من 8 آب (أغسطس) إلى 5 أيلول (سبتمبر) التي شدّدت على أنه «كان لديّ عدد من المرضى الأطفال، معظمهم تحت سن 12 عاماً، أصيبوا برصاصات في الرأس أو الجانب الأيسر من الصدر. وعادةً ما كانت هذه طلقات فردية. وكان المرضى يأتون إما موتى أو في حالة حرجة، ويموتون بعد وقت قصير من وصولهم».
عرض الاستبيان أيضاً وفيات الكثير من الأطفال بعد ولادتهم بسبب التغذية والجفاف والأمراض المعديّة، كما مشكلات الأطفال النفسيّة والميول الانتحاريّة لدى الكثيرين منهم.
وقد لاقى المقال ضجةً واسعة واعتراضات من قبل الصهاينة والمؤيدين لهم الذين استفزهم تصوير «الجيش» الإسرائيلي باعتراف أطباء وممرضين أميركيين على أنه قاتل للأطفال بشكل مقصود وممنهج. وجرى التشكيك بصحة الشهادات المذكورة، وخصوصاً صور الأشعة التي يتضمنها المقال.
حملة دفعت بالصحيفة إلى نشر بيان تؤكد فيه التمسك بالمقال والأبحاث التي تدعمه، و«أي إشارة إلى أن الصور الواردة فيه مفبركة هي ببساطة خاطئة».
ودعمت الصحيفة موقفها بعرض دقيق للإجراءات التي اتبعتها للتثبت من صحة الشهادات والصور، وأكدت أنّها «تحققت من صحة الروايات والصور عبر الأدلة الفوتوغرافية والفيديو وبيانات الملفات التعريفية. كما قمنا بفحص أوراق اعتماد الأطباء والممرضات، بما في ذلك أنهم سافروا إلى غزة وعملوا فيها كما زعموا. وعندما ظهرت أسئلة حول صدق الصور المدرجة في المقال، قمنا بعمل إضافي لمراجعة النتائج السابقة التي توصلنا إليها. لقد قدمنا المسوحات إلى خبراء متعددين ومستقلين في جروح الطلقات النارية والأشعة والصدمات عند الأطفال، والذين شهدوا على مصداقية الصور. بالإضافة إلى ذلك، قمنا مرة أخرى بفحص البيانات التعريفية الرقمية للصور وقارنّا الصور بمقاطع فيديو من فحوصات الأشعة المقطعية المقابلة لها، إضافة إلى صور جروح الأطفال الثلاثة الصغار».
هل اكتفت الصحيفة بكل هذه التحقيقات التي يفترض أن نتائجها لا ترقى إلى الشك؟ كلا. وجب التبرير أكثر، لأنّ المتهم هو «الجيش» الإسرائيلي الذي دأب على ترويج صورة إنسانية عنه في الإعلام الغربي و«ابتعاده عن أي أعمال تخالف حقوق الإنسان والقوانين الدوليّة». لذلك أعلنت الصحيفة أنها تملك صوراً تؤكد صحة صور الأشعة، ولكن إدارة التحرير ارتأت عدم نشرها لكونها مروعة جداً.
قد يبدو ما قامت به «نيويورك تايمز» من دفاعها عن المقال إيجابياً للوهلة الأولى وفي الظاهر، لكن استماتة الصحيفة لتبرير نشرها للمقال لاقى انتقادات واسعة، وخصوصاً أنّها لم تبذل الجهد نفسه للتثبت من صحة عدد من الروايات الإسرائيلية التي نشرتها وثبت زيفها وعدم صحتها وأبرزها المقال المعنون Screams Without Words الذي زعم أنّ «حماس» اعتمدت على الاغتصاب والعنف الجنسي كسلاح أثناء عملية «طوفان الأقصى»، فيما ظهرت لاحقاً حقائق أثبتت كذب ادعاءات المقال وأبرزها نفي عائلة جال عبدوش ــ التي ركز المقال على رواية اغتصابها- أنها تعرضت للاغتصاب. أضف إلى ذلك أنّ إحدى كتّاب المقال أنات شوارتز هي مخرجة إسرائيلية ومسؤولة سابقة في الاستخبارات الجوية الإسرائيلية.
كذلك، كان لافتاً نشر الصحيفة للمقال ضمن خانة «الرأي» كأنّ المعطيات التي يتضمنها تحتمل التأويل، فيما هي نفسها في ردها أكدت تثبثها من المعطيات الواردة فيه.