هل مصر في حاجة لمشروع ثقافي متكامل؟ كيف نجذب الشباب للقراءة؟ هل يُعتبر "البلوغرز والتيك توكرز" أدباء؟ وما سبب تأثيرهم على الأجيال الجديدة؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها أدباء ورواة وأصحاب دور نشر، في محاولة لشرح ورصد واقع مصر الثقافي والأدبي.
يرى الروائي إبراهيم عبد المجيد أنّ "القوة الناعمة لمصر هي أعظم ما فيها في الوقت الحالي، في ظلّ فشل سياسي واقتصادي، صحيح أنّ الإنتاج السينمائي قليل لكن في المسرح لدينا أعمال عظيمة وفي الرواية والشعر والفنّ التشكيلي، مصر بحاجة لمشروع ثقافي بأن تتّسع مساحة المجتمع الأهلي، من دور النشر الخاصة وشركات الإنتاج الفني"، وأتى في حديثه على مسألة ارتفاع أسعار الكتب الجنوني، حيث يقترح أن ترفَع الدولة الضرائب عن الورق، وأن تقوم وزارة الثقافة بشراء ألف نسخة من كلّ كتاب تطبعه دُور النشر الخاصة؛ وتقوم بتوزيعها على المكتبات تشجيعها للناشر فتنخفض أسعار الكتب.
كما أنّ الدولة، برأي صاحب رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" (1996)، "هي المسؤول الأول عن زيادة الوعي الثقافي عن طريق التعليم، بمراحله الثلاث، حيث لا توجد داخل المناهج دروس عن كتابة القصة والرواية، أو عن السينما والمسرح، فما زال الطلبة يدرسون الشعر فقط، والقديم تحديدًا، ويتابع بأن دور الدولة هو التعريف مبكّرًا بالفنون والآداب الحقيقية".
ضرورة تأسيس مشروع قومي للقراءة رغم التحديات الاقتصادية
يُتابع عبد المجيد: "في الفترة الحالية وبين الأجيال الجديدة كُتّابٌ رائعون من الرجال والنساء، لم يعد الأمر مجرّد ستة أو سبعة روائيين؛ بل صار هناك العشرات، لم ينضب الإبداع، ولكن كثرته قد تحيّر البعض ويحتاج متابعات نقدية أكثر. ورغم وجود تقصير من الإعلام الرسمي؛ إلا أن عالم السوشيال ميديا أوسع وأسهل في الوصول إلى القرّاء والمهتمّين، هي الإعلام الأهم لأنها خالية من الرقابة، حتى المواقع التي تحظرها الدولة يُمكن الوصول إليها، وبالتعليم الأساسي نستطيع أن نعيد هذا الجمهور للاهتمام بالقراءة والثقافة".
وعن ظاهرة "البلوغرز" ومشاهير موقع "تيك توك" الذين اتّجهوا لكتابة الرواية، وحفاوة جيل من المراهقين والمراهقات بهم؛ رغم ركاكة الفكرة والأسلوب إضافة إلى الأخطاء النحوية والكتابة باللغة العامية أحيانًا، فقد اعتبرها إبراهيم عبد المجيد "ظاهرة طبيعية ملازمة لكلّ عصر، وأنّ الأدب الحقيقي ليس إنتاجًا لكلّ الناس وليس موجّهًا لكلّ الأعمار. وبعيدًا عن عصرنا فعلى طول التاريخ الروايات البوليسية هي الأكثر مبيعًا مثلًا، لكن هذا لم يقلّل من الأدب الحقيقي. الحياة أعمار ولكلّ عمر اهتماماته".
ويُضيف: "أغاثا كريستي كاتبة الرواية البوليسية الإنكليزية باعت في حياتها مليار نسخة من أعمالها، لكن هذا لم يُقلّل من الأدب الإنكليزي لكتّاب مثل جيمس جويس أو غيره. لا تخافوا من هذه الظاهر فستتغير مع الزمن".
ويواصل: "هدف من يكتبون الرواية بالعامّية هو تسويق أعمالهم وهي أعمال قليلة جدًّا قياسًا على الفُصحى. الحديث عن العامّية والفصحى قديمٌ وقد انتهى إلى صالح الفصحى، وعودته الآن إفلاس في رأيي. لغة الرواية هي من إنتاج أشخاصها ومن ثم يمكن أن تكون بها الفُصحى والعامّية معًا حسب الصدق الفني مع الشخصيات. فلغة القاضي غير لغة المتّهم مثلًا. ولغة الغانية غير لغة الفتاة أو المرأة السويّة. الذي يَحكُم اللغة هو الصدق الفنّي أمّا أن يُقرّر الكاتب لغة واحدة هي لغته فهو أمر بعيد عن الفنّ والصدق الفنّي".
مع قرب فعاليات "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، وتساؤل كثيرين عن غياب الندوات الثقافية، ورؤية آخرين أن الندوات موجودة لكنها قليلة جدًّا طبعًا، تحدّث الروائي المصري حول هذا التفصيل: "ربّما للشعور بالحرج من الموضوعات الجادّة التي قد تأخذ الناس إلى الأوضاع السياسية. لا أعلم بالضبط لكني أخمّن ممّا أراه حولي". وحول مستقبل الرواية أضاف: "ستظلّ سيّدة المشهد لأن ما يحدث في هذا العالم القذر فاق كلّ خيال من الظلم والقهر. يكفي ما يحدث في غزّة من إبادة جماعية يتفرّج عليها العالم. يومًا قريبًا ستكون الرواية هي ذاكرتنا التاريخية عن هذه المجازر".
ارتفعت أسعار الكتب خمسمئة بالمئة ما أثّر سلبًا على شرائها
بدوره يتّفق أحمد دنيا، صاحب "دار مبتدئ للنشر والتوزيع" مع الأديب إبراهيم عبد المجيد، بأننا بحاجة للمشروع بشكل عاجل وضروري، يقول: "المشروعات كثيرة وطُرحت أمام الحكومات المتلاحقة، لكنهم لا يهتمّون بالثقافة قدر الاهتمام بالأنشطة التي تدرُّ مالًا، الموضوع أصبح تجاريًّا فقط، بحسب تصريحه، وأضاف بأنه في السابق كان هناك مسؤلون يهتمّون بالأعمال الجادّة، ويحصلون على دعم من بعض رجال الأعمال، وكانت هناك جمعيّات تقوم بنفس الدور عن طريق المساعدة في تكاليف الطباعة، وكذلك التوزيع بمبلغ زهيد كمساهمة في تنمية الوعي، خاصة وأن سعر الكتاب كان في متناول الجميع".
ولفتَ دنيا إلى أنّ "الوضع الاقتصادي للقارئ المصري أثّر بشدة على الحركة الشرائية وبالتالي سيؤثّر على حجم الوعي، لن يمنع الوعي لكن سيحدّ منه، فمن اعتاد على قراءة خمسين كتابًا في السنة مثلًا، ومع الطفرة التي حدثت لسعر الكتب وتضاعفها حتى وصلت لخمسمئة بالمئة، ومع انخفاض قيمة صرف الجنيه مقابل الدولار، بالتالي اختلفت وتغيّرت أولوية الإنفاق".
وبسؤاله عن دور وزارة الثقافة تجاه تلك التغيُّرات، أجاب: "تستطيع الوزارة أن تُنظّم فعاليات وتذلّل العقبات، من خلال تنظيم مسابقات لتنشيط الحركة الثقافية، لا أن تتدخَّلَ في الإنتاج، فالمنتوج موجود، لكن يُمكنها أن ترصد جوائز مالية ضخمة تجذب الكُتّاب والأدباء ليس في مصر فقط، وأن يكون لها اسمٌ يروّج له بها وتمنح لمن يستحقّ حتى تكتسب قيمتها مع الوقت، هذا هو الدعم المطلوب، حجم الاستثمارات السنوية في مسلسلات رمضان كبير، ما هو المانع أن يكون أحد هذه المسلسلات مأخوذ عن رواية أدبية؟ وهذا سيكون عنصر جذب ومشجّع للأدباء والروائيّين، وترويج كبير ومساهمة في زيادة الوعي والتذوّق لدى المتلقّي".
كذلك يُقرّ أحمد دنيا بوجود تقصير إعلامي تجاه مشاكل وتحدّيات دور النشر، نظرًا لعدم وجود كفاءات ثقافية تتصدّر المشهد الإعلامي، فساعات البثّ المباشر بنظر رجال الأعمال هي مصدرٌ للكسب، وأي برنامج ثقافي لن يُحقّق أيّة مشاهدات، والحلّ، برأيه هو أن تُلزم الدولة قنوات المنوّعات بساعة أسبوعية تُخصَّص لبناء الوعي الثقافي من خلال عرض التراث، ومناقشة الكتب والروايات، وقراءة الجرائد، واستضافة الكتّاب، وتحريك المياه الراكدة، ورفع قيمة الأدب الحقيقي ووضعه في المكانة التي يستحقّها، الأمر الذي يُساهم في سدّ الفجوة بين جيل السوشيال ميديا والأدب الحقيقي، ولا بد كذلك أن نقتحم عالم السوشيال ميديا، بدلًا من عرض قشور الكتب من خلال "التيك توكر" الذين يمدحون الكتب التي يروجون لها دون نقد ومراجعة حقيقية.
أما إبراهيم عيسى صاحب "دار كتوبيا"، فيصف الوضع الثقافي والأدبي في مصر بأنه يعاني، و"محصور داخل دوائر معيّنة من قصور الثقافة إلى غروبات السوشيال ميديا، والهوّة شاسعة بينهم وبين القارئ مع كثرة العرض وتشبُّع السوق، ومصر تستحقّ أن تكون في الريادة دومًا"، ويُضيف: "أتسائل وكثير من المثقّفين لماذا لا يكون هناك مشروع ثقافي قومي كما كان في السابق، مكتبة الأسرة ومهرجانات القراءة للجميع، لماذا لا يكون لدينا جائزة كبيرة لجذب الأدباء من كلّ حدب وصوب!".
رصْدُ جوائز أدبية قادرة على جذب كُتّاب مصريين وعرب
كذلك يُفيد عيسى بأن دوائر الإعلام تضع الكتُب والحديث عنها في آخر قائمة المهام لديها، وهنا يتحدّث عن الإعلام المسموع والمرئي على سبيل التحديد، وصناعة النشر هشّة لأنها في المقام الأول تقدّم سلعة ترفيهية يُمكن الاستغناء عنها بسهولة، ازدادت كُلفة الطباعة والنشر وقفَز سعر الكِتاب، حلمُ كلّ ناشر هو أن تتوفّر إصداراته لكلّ فئات الناس، وليس لمن استطاع إليها سبيلًا"، ويرى أنّ "وزارة الثقافة تستطيع أن تُقدّم دعمًا حقيقيًا لصناعة النشر، ودعم مشاريع الترجمة وإقامة المعارض في الأقاليم والمدارس وأن تُقيم جائزة كبرى في الأدب وفنونه على المستويات كافة".
الناشر فتحي المزين مدير "دار ليان" يرى أننا "بحاجة لدعم الدولة بالصناعة وأن يكون هناك مشروعٌ قومي للقراءة، وإن كانت هناك تحدّيات اقتصادية أكثر إلحاحًا على الدولة، وهو ما يجعل الاهتمام بالجانب الثقافي رفاهية"، وعن التقصير الإعلامي، يرى أن المثقّفين مزعجين للسلطة، ولا نستطيع الاعتماد على وزارة الثقافة لكن التعويل على اتحاد الناشرين هو ما يجب عليه التحرّك من خلاله.
يضيف المزين أن "ما قبل كورونا غير ما بعدها، لا توجد فعاليات ثقافية كما السابق، الجميع فقدَ الشغف، الكتُب موجودة والمبيعات موجودة لكن ليس بنفس القدر، المكتبات الحالية تُعاني بسبب أسعار الكتب المرتفعة نتيجة لتكاليف الطباعة، وليس لدينا حقوق للملكية الفكرية، هناك إمبراطورية للطباعة في حي دار السلام بالقاهرة، تقوم بالاستيلاء على حقوق دور النشر، عن طريق إعادة طباعة الكتب، كتب مزورّة، نحاول بشدّة من أجل تعديل القانون لكن دون جدوى".
أحمد فرحات روائي شابّ، يتحدّث عن ظاهرة الحفاوة بـ"التيك توكر"، موضحًا بأنّ "للمشكلة العديد من الأسباب، أهمّها النظام التعليمي الأساسي والذي يُجبر الطالب على الحفظ لا التفكير النقدي والبحث، وكذلك هناك الكثير من الناشرين في الوقت الحالي ممّن دخل إلى تلك الصناعة وهو يحمل عقلية التاجر الذي يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح دون النظر لمضمون ما يُنشر، فتحوّل من ناشر من المفترض به أن ينشر الأفكار الجيّدة إلى تاجر أوراق وحبر، يحصل على مبلغ كبير نظير نشر نفايات مكتوبة، تُباع بناء على شهرة البلوغر الموضوعة صورته واسمه على الغلاف".
يضيف: "أصبحت صناعة التفاهة أصبحت بضاعة رائجة، وعدم التوجيه السليم وتنمية العقل والفكر، جعل الشباب يتابعون تلك التفاهات ويُقبلون عليها بشكل وبائي، للمشكلة الكثير من المُسبّبات، ويصعب حصرها في موضوع واحد، يحتاج الأمر لجهود كبيرة لمحاولة حلّها"، كما يرى أن "القراءة من الأمور الأساسية في الحياة، فكما أن الجسد يحتاج للطعام والشراب كي يستمرّ في الحياة، فالعقل يحتاج للقراءة كيلا يضمر ويتحوّل لعضو بلا جدوى، الثقافة ليست رفاهية ولا هي أمر جانبي يمكن الاستغناء عنه، فالمجتمع غير المثقّف هو مجتمع مريض منهار لا يمكنه أن يستمرّ".