حانت ساعة العودة، إنها الرابعة فجرًا موعد الانطلاق، ما إن سرى وقف إطلاق النار حتى سرنا.. كلما تقدمنا باتجاه الجنوب كان وهج شمس الانتصار يشرق علينا أكثر فأكثر. لم تكن الطرقات سالكة بشكلها المعتاد، بعد شهرين ونيف تغيّرت معالمها وغطت أكوام الركام أجزاءً كبيرة منها، كنا نسير وضباب الغبار يسير خلفنا، ما همنا فالعزة والكرامة تسير أمامنا. رغم كل ما واجهناه من مخاطر المسير كان شوقنا وحنيننا للأرض يشدنا نحو بلدتنا الأبية التي سطّرت ملاحم البطولة فأردت العدو في زقاقها ومحيط جبانتها وضعيتها القديمة والخانوق وباب الحاصل وساحتها وحاراتها التحتا والفوقا..
وصلنا إلى عيترون، وصرنا في أرجائها وأحيائها، نتفقد أرزاقنا، ونسترجع ذكرياتنا بعد 14 شهرًا من غيابنا القسري عنها، ومثلنا عوائل كثيرة من بلدتنا الكريمة عادت سريعًا لتؤهِّل منازلها التي لا تبعد أكثر من مئات الأمتار عن الحدود في "المطيط"، و"الجزيرة" و"النقعة"، بيد أن العدو لم يهضم عودتنا، فاستشاط غضبًا، لكأن خطوات أقدامنا في بلدتنا كان وقعها يتردد هزات في مستوطناته. مشهد عودة أهالي القرى سريعًا إلى ديارهم مقابل بقاء مستوطناته مدن أشباح خالية أزعج "الجيش الذي لا يقهر"، سر بالطبع لا يفقهه جيش لا يعرف طعم الانتماء للأرض، ولغز شيفرته معقودة على تجذر الناس بأرضها وتعلق أرواحهم بها، الأرض التي روتها بدمها وأسقتها العزة وقطفت من ثمار وخيرات انتصاراتها الأرض التي زرعتها وغمّست لقمة عيشها بمرارة تبغها المصفوف في "دانك" (صندوق خشبي يصففون أوراق التبغ في داخله بطريقة منظمة).. أرض كروم التين واللوز والزيتون في كحيل والعريض.
منذ الساعات الأولى لوصولنا إلى بلدتنا بدأ العدو مضايقاته وخروقاته لوقف إطلاق النار. لم يلتزم أصلاً بهذا الاتفاق! حتى الساعة سجلت عشرات الخروق التي تجاوزت المئة وستين خرقًا وشملت غارات على مناطق مختلفة، نتج عنها سقوط ضحايا وشهداء (24 شهيدًا) في بنت جبيل ودبين وبيت ليف وعيترون والخيام. فهو عدو غادر في الحروب ناقض للعهود لا يؤمن جانبه في الحرب. هو وحش لا يشبع من دماء الأبرياء، وفي السلم ذئب يفترس ضحاياه بجلد حمل وديع عنوانه "التطبيع"، هكذا يصفه أحد العائدين من أهالي القرى الحدودية.
عيترون التي روت الأرض بدمائها وصولاً إلى أقصى الشمال، يوم لاحق العدو أبناءها النازحين فارتكب مجازر بحقهم في زغرتا وفي حارة صيدا وفي الوردانية، استأسد شبانها دفاعًا عن ترابها. فعاد أهلها ليؤنسوا ويدفئوا قلبها النابض بالحياة، وليدونوا صفحات جديدة في كتابهم "عيترون عز وعطاء". لكن العدو الغاشم ما تركهم يهنؤون. صدهم ونغص عليهم عودتهم بخروقاته المتكررة. طلائع الواصلين أرعبوا العدو وهزوا جيشه الذي راح يطلق رصاصه على العائدين من نقاط تموضعه في بلدة مارون، ما دفع الجيش اللبناني لإقفال الطريق الواصل إلى البلدة حرصًا على سلامتهم، وتوالت الانتهاكات. راح العدو يدخل البيوت في الأطراف ويفجرها ويهدمها. (ه. س) أحد أبناء البلدة العائدين يروي ما جرى معه، فيقول: "عندما قالوا وقف إطلاق نار طلعنا على الضيعة.. وبينما كنا نقوم بترتيب وضع البيت وإصلاح الأضرار فيه كنا نشاهد يوميًا درون "إسرائيلية" تحلق فوقنا لتصويرنا.. قبل أيام (05-12-2024) أتت الدرون صوّرت وذهبت ثم عادت مجددًا ورمت قنبلة صوتية على بعد 30 متر عنا. ساعتها قلت للعائلة لا يريدون أن يتركونا نقعد هنا قوموا لنفل.. وبينما كنا نلملم أغراضنا رجعت الدرون من جديد ورمت قنبلة أخرى على غرفة الأولاد داخل البيت فأصيبوا وأصيب جارنا خارج المنزل، هذا عدا عن أنهم كانوا يوميًا يطلقون النار علينا، ولكن بحمد الله قطعت على خير".
قصة (أبي علي . ح.) لا تختلف كثيرًا عن قصة ابن بلدته، يحكي الحاج أنه بينما كان عائدًا إلى المنزل ناقلًا حاجيات النزوح إلى بيته، سمع أن جنود الجيش "الإسرائيلي دخلوا إلى "مرج العبد" فاستعجلت لإخراج عائلتي التي تركتها في المنزل قبل وصولهم، وفي الطريق تفاجأت بهم ووجدت نفسي بينهم. حاولت الرجوع للخلف أطلقوا النار علي نزلت من السيارة. أومؤوا إلي بوجوب رفع يدي فرفعتها، ثم طلبوا إلي الاقتراب نحو الامام خطوتين. بعدها أوقفوني وطلبوا خلع الجاكيت ورفع يدي من جديد. فبقيت واقفاً على هذه الحال نحو 10 دقائق. بينما كان يتكلم عبر الهاتف فجأة استدارت رشاشات الدبابات وألقت نيرانها بكثافة نحو بيتي الذي فيه جميع أفراد عائلتي. في تلك اللحظة قلت بيني وبين نفسي الجميع استشهد. بعدها أشار لي بيده وصار يردن علي أنه فل. فورًا توجهت إلى بلدية الضيعة أخبرتهم بما حصل. تواصلوا مع الجيش اللبناني الذي قام باتصالاته وبكل الإجراءات اللازمة، ثم أخبروني لاحقًا أنهم أخرجوا عائلتي من المنزل ووضعوهم في مكان آمن".
أبو علي لم يشفع له موقع منزله الملاصق لموقع قوات "اليونيفيل" التي، إما وقف عناصرها متفرجين على جارهم، أو ربما سجلوا الخرق على لوح من ماء. تكرر المشهد مع ابن البلدة (و.ت)، فروى ما تعرض له قائلاً: "رجعنا إلى البيت، وليلاً حينما حصل قصف عنيف خرجنا منه، وصباح اليوم التالي عدنا صباحًا عند الساعة العاشرة إليه، فوجدنا الأبواب مشرعة، فعرفنا أن هناك من دخل إليه، وما إن جلسنا حتى ظهر جنود العدو بمحيط المنزل، والتفوا بآلياتهم من حولنا وأقفلوا الطريق بوجهنا من الجهتين. ثم توجهوا نحونا وبدؤوا التحقيق معنا وٍسألنا أحدهم: "كنتم هنا.. هناك طعام جديد في البيت.. أجبته صحيح كنا هنا وبعد القصف الذي حدث البارحة ليلًا، غادرنا"، فرد علي:" ألم نقل، إنه يمنع على من يقيم هنا أن يتجول ليلًا؟!"، أجبته:"خفنا.. قلنا يمكن رجعت ولعت الحرب مرة تانية، لكثر ما ضرب طيرانكم وفلينا، وهذا اللي صار"، ثم عاد وقال لي، والكلام لـ"(و.ت):"من الآن لـ60 يومًا ممنوع أن تأتوا الى هنا وأنت ورايح عالضيعة خبر كل من تلتقيه بأن يغادروها فورًا لأنهم بخطر وما تعودوا حتى نعطيكم خبر أنه أصبح بإمكانكم أن تعودوا إلى بيوتكم.. وإذا بترجع على البيت سنقوم بجرفه". وختم (و.ت) قائلاً:"حملنا حالنا وضهرنا، والله سلمنا أنهم لم يعتدوا علينا..".
أبو علي وأبناء بلدته عينة من شهود أحياء على عشرات خروقات جيش الاحتلال اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار بتاريخ ٢٧ تشرين الثاني ٢٠٢٤، وغيرهم كثيرون في عيترون تحدوا العدو وأصروا على البقاء ورفضوا مغادرة بلدتهم من جديد، ما استفزه فأرسل قبل أيام درون راحت تخاطبهم وتطالبهم بمغادرة البلدة، وإلا فإنهم يعرضون أنفسهم للخطر.
لم تقتصر خروقات جيش العدو على قرى جنوب الليطاني، بل تعدتها لتطول كل الأراضي اللبنانية، وتنوعت ما بين غارات الطيران المعادي وتفجير وتهديم المنازل واعتقال مواطنين في أثناء قطافهم الزيتون، كما حصل بالأمس في بلدة عين قنيا الجنوبية. كل تلك الخروقات "الإسرائيلية" لم نسمع حتى اليوم إدانة دولية واحدة لها، ولا حتى محلية من جماعة التطبيل السيادي، فيما المطلوب مسارعة الدولة اللبنانية ولجنة الإشراف إلى القيام بواجباتها لوقف هذه الخروقات، وتطبيق بنود اتفاق وقف إطلاق النار حرفيًا عبر انسحاب جيش العدو إلى خلف الحدود، ومنعه من قضم قرى أمامية لمحاولة فرض من خارج الاتفاق منطقة أمنية عازلة على أرض الواقع، وإلا فإن المقاومة حينها ستكون معنية إلى جانب الجيش اللبناني بالقيام بدورها في حماية لبنان من العدو "الإسرائيلي" وهو ما يكفله اتفاق وقف إطلاق النار نفسه في البند الذي يحتفظ فيه لبنان بحق الدفاع عن نفسه.