ايهاب شوقي
لا شك أن موقف "الحكم الجديد" في سورية من العدوان الصهيوني الشامل على أصول الجيش السوري، والتوغل والاحتلال للمنطقة العازلة والسيطرة على مناطق جديدة في العمق السوري، والذي تمثل في توجيه خطاب متصالح مع هذا العدوان والإعلان عن عدم وجود نية للاشتباك مع "إسرائيل"، هو تحديث إستراتيجي دراماتيكي على الموقف السوري التاريخي من الصراع، لا يقل دراماتيكية عن التحديث الذي قام به قائد الحكم الجديد على اسم تنظيمه ولقبه الشخصي.
والجولاني (مؤسس جبهة النصرة المصنفة دوليًا منظمة إرهابية) بعد تحديث اسمه بالتخلي عن الكنية التي أدخلته تحت تصنيف الإرهاب، واستبدالها باسمه "أحمد الشرع"، وبعد تحديث تنظيمه بالتخلي عن "جبهة النصرة" لـ"هيئة تحرير الشام"، أثبت أن الشرعية الدولية لحاكم سورية على صلة وثيقة بالموقف من الصهاينة، وأن الشرعية باتت مفهوماً انتقائياً تماماً كتوصيف الإرهاب الذي أصبح كالقفاز يسهل خلعه أو ارتدائه وفقاً لاسم التنظيم أو القائد شكلاً، ووفقاً للموقف من الصراع مضموناً.
لقد أكد التوغل الصهيوني في المنطقة العازلة وانتهاك وإنهاء اتفاق فض الاشتباك مع سورية الموقع منذ العام 1974، والتوغل لمسافات مضافة باتجاه ريف دمشق وكذلك السيطرة على كامل جبل الشيخ والاقتراب من لبنان والإشراف الكامل على البقاع وقطع طرق الإمدادات للمقاومة، مع الصمت الأمريكي والدولي، صحة ما قاله الإمام السيد الخامنئي من أن الأحداث كانت برعاية غرف أمريكية وصهيونية.
كما أثبت الانتهاك التركي المستمر للشمال السوري والذي يستعد لعملية كبرى مرتقبة كشفتها صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، أن الدولة الجارة التركية كانت على صلة وثيقة بغرفة العمليات الصهيو أمريكية، فقد أفادت الصحيفة أن القوات التركية و الموالية لها، والتي تشمل قوات كوماندوز تركية ومدفعية بأعداد كبيرة ومقاتلين من فصائل مسلحة، وتتركز قرب عين العرب (كوباني)، تستعد لعملية كبرى وشيكة نقلاً عن أحد المسؤولين الأميركيين.
وبالتالي نحن أمام تحول إستراتيجي خطير يثبت أن الأمر قد يتخطى تقاطع المصالح الصهيونية مع ما حدث أو مجرد توظيف واستغلال لسقوط النظام، بل إن هناك ما هو أكبر وما قد يصل لرعاية كاملة لإيصال هذا النظام تمهيداً للتوغل والاحتلال، ومن ثم استخدام ورقة المنطقة العازلة التي جرى احتلالها لابتزازه بغرض تقديم كامل الضمانات لأمن الكيان.
وهنا تجدر ملاحظة عدة نقاط:
1- إسباغ اميركا الشرعية على منظمة سبق أن وصفتها هي وقائدها بالإرهابية يعني أن الغنيمة كبيرة، وتتمثل في نقل سورية إلى ضفة أخرى مختلفة جذرياً عن تموضعها الإستراتيجي في محور المقاومة وهو ما تؤيده الشواهد من استثمار صهيوني سريع ورد فعل باهت ومتصالح من جانب نظام الحكم الجديد.
2- هناك تناغم واضح بين التصريحات الصهيونية ومراميها وبين تصريحات الجولاني، وكلاهما يصب في كسب مزيد من الوقت لتكريس أوضاع جديدة تتسق مع مشروع الشرق الأوسط الجديد بجوانبه الحدودية التي ترمي إلى زيادة مساحة "إسرائيل" والتي أشار إليها الرئيس ترامب الذي يرغب في زيادة مساحتها متجاوزاً القرارات الدولية، وكذلك تنظيف الطوق الصهيوني من المقاومات وجعل حدودها آمنة. وهذا الرهان على الوقت أبرزته تصريحات نتنياهو في زيارته لجبل الشيخ عندما قال: "إن القوات الإسرائيلية ستبقى متمركزة داخل سورية في المستقبل المنظور، وأن "إسرائيل" ستظل في المنطقة حتى يتم التوصل إلى ترتيب آخر يضمن أمن إسرائيل و في المستقبل، ستحدد إسرائيل أفضل ترتيب يضمن أمننا".
وهو ما يتناغم مع حديث الجولاني، إلى "تايمز" ووسائل إعلام دولية أخرى في دمشق، عندما قال إن أولويته هي استقرار البلاد وإعادة بنائها قبل أي انتخابات، والتي وصفها بأنها "بعيدة المنال الآن"، وهذا الاستبعاد للانتخابات وانتقال السلطة يشي بأمرين، أولهما أنه قابض على السلطة لفترة طويلة وهو المشرف على الترتيبات مع الصهاينة في الفترة القادمة، والثاني، هو أن استبعاد الانتخابات يعني استبعاد ما هو أكبر وأهم وهو استعادة الجيش وصياغة الإستراتيجية الدفاعية ومواجهة الاحتلال "الإسرائيلي" والتوغلات تحت بند عدم وجود فرصة لهذه المواجهة لحين الاستقرار في أجل غير مسمى!.
وقد أرفق الجولاني تصريحاته هذه بتصريحات موجهة للصهاينة تؤكد خلو سورية الجديدة من المقاومة وأنها ستشكل طوقاً آمناً للكيان عندما أكد عدم نية النظام الجديد في سورية مهاجمة "إسرائيل"، والتي قال عنها إنها: "فقدت ذرائع التدخل العسكري في سورية"، داعيًا إياها إلى "إيقاف غاراتها الجوية على سورية، وسحب قواتها من الأراضي التي سيطرت عليها وأنه لن يسمح باستخدام البلاد نقطة انطلاق لهجمات ضد "إسرائيل"، أو أي دولة أخرى".
3- أكدت الأحداث أن كلفة المقاومة أقل كثيراً من كلفة الاستسلام، حيث تردد العدو "الإسرائيلي" طويلاً في استهداف الأصول العسكرية السورية بسبب معادلات الردع والاحتفاظ بخيار المقاومة، بينما استباح جميع الأصول العسكرية بمجرد التقاط الإشارة بعدم نية المواجهة، وهو ما يثبت صحة خيار المقاومة وأن الحياد أو خيار السلام لن يمنع العدو من العدوان لأن السلام بمفهوم العدو هو الضعف وعدم امتلاك أي قوة او معادلة ردع والهدف الحقيقي هو تفريغ المنطقة من أي قوة تهدد الكيان مهما كانت وديعة ومسالمة.
من هنا كان خيار المقاومة هو مساندة أي نظام مقاوم في سورية، لأن المقاومة تعلم أن مجرد رفع راية المقاومة والاحتفاظ بخيارها هو رادع للكيان ومقيد لشراسته، بينما التلويح بالسلام كفيل بالقضاء على الدولة السورية وعلى خطوط إمداد المقاومة وافتراس كل من يحاول حتى الدفاع عن سيادته ومنع الاستباحة الصهيونية.
وهو ما أكدته الطريقة التي تلقف بها الكيان تصريحات الحكم الجديد في سورية، حيث تلقت "إسرائيل" هذه التطمينات بخبث شديد، فبدأت مساراً مزدوجاً للتمكن من شرعنة احتلالها وتوغلاتها وتدميرها للقوة العسكرية السورية (إلقاء نحو 1800 قنبلة على أكثر من 500 هدف وتدمير بين 70 و80% من القدرات العسكرية للجيش السوري)، وهذا المسار تمثل في استخدام الحكم الجديد كفزاعة لتبرير الاستباحة (وصفت نائب وزير الخارجية "الإسرائيلي" شارين هسكل «أبا محمد الجولاني» بأنه «ذئب في ثوب حمل»)، وكذلك إبداء الحياد وطمأنة الداخل الصهيوني من خلال مقابلات أجريت، على مدى الأيام السابقة، مع معارضين سوريين، أعربوا صراحة عن أنهم لا يريدون حربًا مع "إسرائيل"؛ لا بل يتمنون أن يروا مراسلًا لقناة "إسرائيلية" يبث رسالته من قلب دمشق.
كما جاء على لسان نتنياهو نفسه كلام لافت عندما قال إنه وجه الجيش بـ«السيطرة على المنطقة العازلة وعلى مواقع السيطرة القريبة منه. وفي موازاة ذلك، نعمل من أجل جيرة حسنة، كتلك الجيرة الحسنة التي نفذناها وننفذها هنا عندما أقمنا مستشفى ميدانياً للعناية بآلاف السوريين الذين أصيبوا في الحرب الأهلية. وقد وُلد مئات الأطفال السوريين هنا في إسرائيل».
وهو خيط التقطته وسائل الإعلام العبرية بلقاءات مع الخبراء الصهاينة المتابعين للملف السوري منذ بداية الأحداث في 2011، حيث تناول المتحدثون التاريخ الطويل للعلاقات "الإسرائيلية" مع طرفي الصراع في سورية، النظام من جهة والمعارضة من جهة ثانية، وكيف طلبت عناصر في المعارضة الدعم وحتى السلاح من "إسرائيل" في سنة 2011 - 2013، مقابل الوعد باتفاق سلام يتم بموجبه تأجير الجولان المحتل لـ"إسرائيل" 15 سنة. وتبين لاحقاً أن بين من عالجتهم "إسرائيل" جرحى "جبهة النصرة"، الأمر الذي أثار الدروز في "إسرائيل" الذين كانوا يناصرون الدروز في السويداء، بعدما هاجمتهم "جبهة النصرة". كما أفادوا بأن «هيئة تحرير الشام» وعدت بإقامة «علاقات سلام عميقة مع إسرائيل»، بينما تعهدت تركيا بألا توجه أسلحة المعارضة لـ"إسرائيل"، بينما سعت أميركا لإقناع "إسرائيل" بأن قائد «تحرير الشام» أبا محمد الجولاني رجل منفتح، وقد تغيرت مواقفه وبات يؤيد "الإسلام المعتدل".
هذه التطورات تؤكد صوابية بوصلة المقاومة في لبنان عندما تربط مواقفها وعلاقاتها بالدول بالموقف من الكيان "الإسرائيلي" وعندما تحتفظ بخيار المقاومة مهما كانت التضحيات حيث ثبت بالوقائع أن ترك السلاح هو إيذان بالاستباحة الكاملة وتدمير جميع المقدرات. وتبقى الأوضاع أمام أسئلة مفتوحة عن طبيعة ما حدث في سورية وعن تطوراته وإلى أين تتجه سورية والمنطقة بعد هذا "الثوب السوري الجديد"؟.