بعد مرور شهر على سقوط النظام السوري، وصعود «هيئة تحرير الشام»، بزعامة أحمد الشرع، إلى رأس هرم السلطة، يظهر المشهد السوري حالة مستمرة من الفوضى التي تتخلّلها أعمال اغتيال وتصفية راح ضحيتها عشرات الأشخاص، الذين وجدت جثث بعضهم في أراض زراعية. ويقابل ذلك تجاهل متعمّد من قبل الإدارة السورية الجديدة لتلك الجرائم، التي تشير مصادر أهلية إلى أن المتورطين في ارتكابها هم عناصر من «الإدارة» ذاتها. وتأتي هذه الانتهاكات التي راح ضحيتها نساء وأطفال أيضاً، في حمص وحماة واللاذقية وطرطوس خصوصاً، بالتزامن مع ارتفاع نبرة الخطاب الطائفي في بعض المناطق، وسط محاولات حثيثة تقودها فاعليات أهلية ووجهاء لتخفيف حدة هذا الخطاب، ومنع الانجرار إلى اقتتال من شأنه أن يدخل البلاد في دوامة عنف جديدة. في المقابل، تظهر تصريحات «الإدارة»، التي تحاول تجذير نفسها في مفاصل الدولة، انفتاحاً يناقض ما يجري على الأرض، والذي تدأب على تعليقه على شمّاعة «الأخطاء الفردية»، أو «الجرائم المجهولة الفاعل»، أو ربطه بـ«فلول النظام».
في هذا الوقت، وعلى عكس الجلسات الماضية لمجلس الأمن الدولي، الذي تحوّل إلى منبر لتبادل الاتهامات طوال السنوات الماضية، جاءت جلسة المجلس الأخيرة حول سوريا أكثر هدوءاً، إذ ظهر فيها توافق كبير بين واشنطن وموسكو على ضرورة تحقيق الاستقرار في البلاد، ودعم عملية سياسية تتوافق مع قرار مجلس الأمن الرقم 2254، الذي اعتبر الشرع أنه يقوم بتنفيذه عبر تشكيل حكومة انتقالية والدعوة إلى حوار وطني - تم تأجيله إلى أجل غير مسمى - لصياغة دستور قال الرجل الذي يقود سوريا، حالياً، إنه يحتاج إلى نحو ثلاث أو أربع سنوات لإنجازه.
وخلال الجلسة، التي عقدت مساء أول من أمس، أبدت دوروثي شيا، نائبة المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، رضى بلادها عما اعتبرته «رسائل إيجابية» من «تحرير الشام»، مشيرة إلى أن واشنطن «ما زالت تنتظر الأفعال لا الأقوال». من جهته، رحّب مبعوث الأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسن، بالرفع الجزئي للعقوبات الأميركية مؤقتاً عن دمشق، وطالب بمعالجة كاملة للملف، قائلاً: «أرحّب بإصدار حكومة الولايات المتحدة في الآونة الأخيرة ترخيصاً عاماً مؤقتاً جديداً. لكن عملاً أكبر بكثير في المعالجة الكاملة للعقوبات والتصنيفات (في القوائم) سيكون ضرورياً حتماً».
في غضون ذلك، تتابع تركيا، التي باتت تقبض على المشهد السوري، حراكها المستمر لمدّ نفوذها إلى سوريا، واستثمار الوضع الحالي عبر المشاريع الاقتصادية، والسياسية، إلى جانب العمل على تحجيم دور الأكراد الذين يسيطرون على «الإدارة الذاتية»، بدعم من الولايات المتحدة، التي تبدو من جهتها، ومعها حلفاؤها، سعيدة، بالانتصار على روسيا وإيران في سوريا. وفي كلمة له خلال فعالية في المجمع الرئاسي في العاصمة أنقرة، قال الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إن الفرق التركية التي تزور سوريا تشير إلى أن المشهد «أسوأ بكثير»، لافتاً إلى أنه «مع انتصار الثورة السورية، سنحت فرصة تاريخية أمام بلادنا والمنطقة، وسنحقق هدفنا المتمثل في تركيا خالية من الإرهاب»، في إشارة إلى القوات الكردية. وتابع: «نمرّ بفترة تشهد فيها المنطقة تطورات مهمة للغاية»، مؤكداً أن «الأحداث التي تشهدها سوريا تحظى بأهمية خاصة بالنسبة إلى تركيا»، مضيفاً أنه «بمعزل عن الخسائر البشرية، فالأضرار التي لحقت بهذا البلد من جراء سياسة المجازر التي استمرت 13 عاماً تتجاوز 500 مليار دولار».
وعلى خطّ مواز، أفاد مصدر في وزارة الخارجية التركية، بحسب وكالة «رويترز»، بأن مسؤولين أتراكاً سيبلغون وكيل وزارة الخارجية الأميركية، جون باس، الذي يزور أنقرة، بأن سوريا «بحاجة إلى التخلص من الجماعات الإرهابية لتحقيق الاستقرار والأمن»، علماً أن وزارة الخارجية الأميركية أعلنت، في وقت سابق، أن باس سيلتقي كبار المسؤولين الأتراك، لمناقشة الوضع الحالي في سوريا، و«سيشارك أيضاً في اجتماعات حول أهمية الاستقرار الإقليمي، ومنع استخدام سوريا كقاعدة للإرهاب، وضمان الهزيمة الدائمة لتنظيم داعش».
بدوره، أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن واشنطن تعمل مع الأوروبيين سعياً إلى إقامة سوريا «سلمية ومستقرة»، و«تبذل جهوداً مع أنقرة للحؤول دون أن تشن الأخيرة عملية عسكرية ضد الأكراد في سوريا». وأضاف، في تصريحات خلال مؤتمر صحافي في العاصمة الفرنسية باريس بعد مشاركته في اجتماع خماسي حول سوريا في العاصمة الإيطالية روما، بحضور الدول المضيفة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا، أن تركيا لديها «مخاوف مشروعة» بشأن مقاتلي «حزب العمال الكردستاني» داخل سوريا، داعياً إلى «حل» في البلاد يشمل «مغادرة المقاتلين الإرهابيين الأجانب»، ومشيراً إلى أن «هذا مسار سيتطلب بعض الوقت». ورأى أن ثمة «أملاً حقيقياً في مستقبل سوريا، بعد خمسة عقود من حكم نظام الأسد، الذي مارس الوحشية ضد الشعب السوري، والآن لديهم الفرصة لمستقبل لا يخضع لسيطرة دكتاتور، ولا لسيطرة قوة أجنبية، ولا لسيطرة جماعة إرهابية، مستقبل تحترم فيه سوريا ذات السيادة حقوق كل شعبها»، مشدّداً على أهمية ألّا تُستخدم سوريا «كقاعدة للإرهاب أو غيره من الأمور السيئة التي رأينا تأثيرها على الناس خارج حدودها»، على حدّ وصفه.