بعد ثلاثة أشهر من النزوح إلى العراق، بدأت عائلات لبنانية العودة إلى الديار، مؤكدة أنها لن تنسى المودة الكبيرة التي غمرها بها الشعب العراقي. في حين أكدت السلطات العراقية أخيرًا عودة أكثر من 14 ألف لبناني إلى وطنهم، واستمرار العملية، مشددة على التزامها تقديم الدعم الكامل إلى أولئك الذين لا يزالون في أراضيها.
واستقبل العراق أكثر من 40 ألف لبناني بعدما تصاعد العدوان الإسرائيلي في سبتمبر/ أيلول الماضي، قبل إعلان وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ووفّرت الحكومة لهم مساكن، ومنحتهم مساعدات طبية وإنسانية، ولجوء استثنائي، وأتاحت دخولهم عبر المطارات، ومعبر القائم الحدودي مع سورية من دون الحاجة إلى جوازات أو تأشيرات سفر .
استقر اللبنانيون في العديد من محافظات العراق، أبرزها كربلاء والنجف اللتان استقبلتا الأعداد الأكبر، إضافة إلى نينوى والأنبار وصلاح الدين وبغداد وبابل وديالى والمثنى والديوانية والبصرة وميسان، كما احتضن عراقيون اللبنانيين، وفتحوا أبواب منازلهم وأعدوا موائد لهم.
تمسح اللبنانية نور هارون دموعها قبل أن تغادر مدينة كربلاء مع زوجها وأولادها الثلاثة، وتقول : "لم نشعر يومًا أننا غرباء، بل جزء من العائلات التي احتضنتنا، وقدمت إلينا كل ما نحتاجه وأكثر، مثل منتجات يدوية وسجاد وتمور عراقية شهيرة".
ويُبدي اللبناني علي منصور، لـ"العربي الجديد"، امتنانه وشكره العميق لما وجده من محبة وكرم خلال فترة إقامته في العراق، ويقول: "لم أشعر يومًا أنني غريب. احتضننا العراقيون كأهل وليس كضيوف عابرين. منذ اللحظة الأولى لوصولنا قدموا إلينا كل ما نحتاجه وأكثر". ويوضح أن إمام مسجد تكفّل بتأمين مسكن مجاني لعائلته المكونة من والدته وأخته وزوجته وطفليه.
عن علاقته بالجيران يتحدث علي بحماسة ويقول: "لم يمر يوم إلا ودعانا الجيران إلى موائدهم. كنا نستمتع بولائم سخية أعدت خصيصًا لنا. وحتى في الأيام التي لم ندع فيها، كانوا يحضرون الطعام إلى باب منزلنا. ولم تكتفِ العائلات العراقية بتقديم الطعام، بل كانت تلبي كل احتياجاتنا من ملابس وأدوية، وتهتم بأدق تفاصيل حياتنا اليومية، لذا شعرت حقًا أنني بين أهلي وليس في بلد غريب". ويؤكد أن علاقته بالعائلات التي سكن قربها أصبحت وطيدة جدًا، وأنه سيعود يومًا ما بصفة زائر يرغب في رؤية أصدقائه وإخوانه. ويخبر أنه اشترى بعض المصنوعات التراثية التي ستأخذ موقعها داخل بيته لتخلد أجمل ذكريات حياته.
بدورها اقتنت رنا عيسى تذكارات عراقية، وتقول لـ"العربي الجديد": "لا شيء يمكن أن يصف شعوري تجاه العراقيين. ما وجدناه من ترحيب وكرم يفوق الوصف، وحتى الأسر الفقيرة كانت تقدم خدمات لنا بحب". تضيف: "لن أعود إلى لبنان بلا شيء، إذ حملت معي تذكارات تعبّر عن تعلقي بهذا البلد الذي احتضنني مع أسرتي جميع النازحين اللبنانيين بكل حفاوة. أخذت معي مصنوعات فخارية وخشبية تجسّد آثار العراق، مثل زقورة أور وأسد بابل، إضافة إلى خريطة العراق التي سأعلقها بفخر داخل منزلي. كل قطعة اخترتها تحمل ذكرى جميلة، وتجسّد الروح العريقة لهذا البلد الذي أصبح جزءًا مني". تتابع: "لم أشعر يومًا أنني نازحة. فاق الاستقبال التوقعات، وكانت الضيافة لا مثيل لها. جاراتي في الحي كنّ أكثر من صديقات، وأصبحنا أشبه بعائلة واحدة نتشارك الأفراح والأحزان. ربطتنا علاقات وثيقة ستستمر بعد عودتي إلى لبنان".
أيضًا أبدت عائلات عراقية حزنها لرحيل ضيوفها اللبنانيين، من بينهم أم حسن التي كانت تستضيف في بيتها أفراد عائلة منهم. وتقول: "كنا نتمنى أن يبقوا معنا أطول فترة ممكنة. ندعو الله أن يجمعنا بهم مرة أخرى، لكن بصفة ضيوف وليس نازحين".
تروي العراقية رهف هادي (27 سنة) من ديالى، تجربتها الإنسانية مع العائلات اللبنانية، وتؤكد أن الظروف الصعبة التي واجهها اللبنانيون دفعت الأهالي إلى احتضانهم، وتقديم كل ما يستطيعون لمساعدتهم. وتقول :"عندما جاءت عائلات لبنانية إلى حيّنا شعرنا بمسؤولية تجاهها. كانت العائلات تعاني من ظروف صعبة للغاية، وحاولنا أن نجعلها تشعر بأنها بين أهلها، لذا فتحنا لهم بيوتنا وقلوبنا".
تضيف: "قضت معنا هذه العائلات وقتًا رائعًا، وارتبطنا بأفرادها بشكل وثيق، ونظمنا معهم رحلات داخل المحافظات. لقد أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية، وعندما جاء يوم رحيلها كان الوداع أصعب مما توقعنا، وانهمرت دموعنا". تتابع: "حمّلنا أصدقاءنا اللبنانيين هدايا للذكرى، من بينها ملابس تراثية عراقية، وهم أصروا بدورهم على أن يهدونا حلى ذهبية وفضية كانوا يرتدونها عند قدومهم إلى العراق".