أوراق إعلامية

"تيك توك".. الإعلام الرقمي الذي تتنازع عليه الجبهة الأميركية - الصينية

post-img

مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، انتقلت المعركة إلى تيك توك. حظر التطبيق صار وشيكًا، والمستخدمون يكافحون للعثور على ملاذات جديدة وسط هذا الواقع المجهول، مع تسجيل نزوح كبير إلى منصة «رِد نوت» الصينية

إنها النهاية لأكثر من 170 مليون مستخدم أميركي على تطبيق تيك توك. وفقًا لأحدث المعلومات التي نشرها موقع «ذي إنفورميشن» المتخصّص، تستعد شركة «تيك توك» لإغلاق التطبيق ومكاتبها في الولايات المتحدة يوم الأحد المقبل، أي بعد ثلاثة أيام من الآن، وقبل يوم واحد من تنصيب دونالد ترامب رئيسًا. وإذا لم تحدث معجزة سياسية خلال الساعات القادمة، فهذا يعني نهاية سريعة لمنصة الفيديوهات القصيرة التي انطلقت شعبيتها خلال مدة الجائحة.

وسط التحولات المتسارعة التي تشهدها منصة تيك توك، وتشمل الضغوط التنظيمية في الولايات المتحدة وأوروبا والقلق المتزايد بشأن خصوصية المستخدمين وأمن البيانات، يجد صنّاع المحتوى أنفسهم عند مفترق طرق يهدّد استقرار أعمالهم. يعتمد هؤلاء على تيك توك كمنصّة أساسيّة لتحقيق الدخل والشهرة. ومع اقتراب حظر التطبيق، برزت الحاجة إلى البحث عن بدائل تحفظ استمرارية أعمالهم وتأمين تواصلهم مع جماهيرهم.

بدأ صناع المحتوى بالفعل بتبنّي إستراتيجيات تهدف إلى تقليل اعتمادهم على تيك توك وحده، عبر تحويل متابعيهم إلى منصات أخرى مثل إنستغرام، ويوتيوب، وسناب شات. إلا أنّ التحول ليس بالأمر السهل؛ فالاختلاف في طبيعة المحتوى والجمهور على هذه المنصات يشكّل تحديًا كبيرًا (الحرية على تيك توك أكبر بكثير من تلك المنصات). في المقابل، ظهرت خيارات جديدة، من بينها تطبيق «رِد نوت» RedNote الذي أصبح عنوان المرحلة المقبلة. «رِد نوت»، وهو تطبيق صيني ينتمي لـ«بايت دانس»، الشركة الأم نفسها لتيك توك. شهد إقبالًا واسعًا في الأيام الأخيرة، حتى إنّه احتل صدارة قائمة التطبيقات الأكثر تحميلًا في الولايات المتحدة. يتميز التطبيق بواجهة مألوفة تشبه تيك توك، ولكنه يقدم ميزات إضافية مثل أدوات تحرير فيديو وصور متقدمة، وطرقًا مبتكرة للتفاعل مع الجمهور، وإمكانات لتحقيق الدخل بشكل أكثر تنوعًا. والجدير بالذكر أنّ التطبيق كان، حتى قبل أيام قليلة، متاحًا باللغة الصينية فقط. ومن المدهش سرعة استجابة مبرمجي الشركة في تحويل واجهة المستخدم إلى اللغة الإنكليزية.

جاذبية «رِد نوت» لا تقتصر فقط على المزايا التقنية، بل تمتد إلى القاعدة الجماهيرية التي تجمعها المنصة بسرعة، ما يجعلها خيارًا جذابًا لصنّاع المحتوى الذين يبحثون عن بيئة جديدة تحافظ على زخم شعبيتهم. كما إن ارتباط التطبيق بشركة «بايت دانس» يمنح المستخدمين الثقة بقدرة المنصة على تقديم تجربة مماثلة، وربما أفضل من تيك توك.

رغم أنّ الانتقال إلى «رِد نوت» قد يبدو حلًا واعدًا، إلا أنها لا تزال أرضًا جديدة غير مكتشفة، ناهيك بمدى استعداد المستخدمين للثقة مجددًا بشركة تواجه أصلًا مزاعم أميركية بشأن خصوصية البيانات. كما إنّ تبنّي منصة جديدة ينطوي على تحديات بناء جمهور جديد وتكييف المحتوى ليتلاءم مع ثقافة المنصة وبيئتها.

الآن، حتى وإن ظهر مشترٍ أميركي محتمل لتيك توك في اللحظة الأخيرة، فإنّ ما يحدث يمثل درسًا قاسيًا حول هشاشة العمل الذي يعتمد على المنصات الرقمية. هذا الواقع ليس جديدًا، إذ إنّ مخاوف الحظر تطارد مستخدمي تيك توك منذ سنوات. في عام 2020، وخلال مدة إدارة الرئيس ترامب الأولى، كانت المنصة على حافة الحظر، ما دفع عددًا من صنّاع المحتوى لتحضير «فيديوهات وداعية» أو إنشاء حسابات احتياطية على منصات أخرى، مشيرين إلى نصيحة متكررة بين المستخدمين: «لا تبنِ منزلك على أرض مستعارة».

مع ذلك، إن المخاوف لم تنتهِ. في عام 2023، عندما واجه الرئيس التنفيذي لشركة تيك توك، شو زي تشيو، استجوابات الكونغرس، زادت الشكوك حول مصير المنصة وسط توترات العلاقات الأميركية-الصينية. وقد عبّر عدد من المبدعين عن مخاوفهم من الاعتماد على خوارزمية معرّضة للتغيّرات السياسية والاقتصادية، مستشهدين بتجارب سابقة مثل إغلاق منصة Vine التي كانت رائدة في الفيديوهات القصيرة.

تكمن قوة تيك توك في خوارزميته السحرية، التي أتاحت لصنّاع محتوى غير مشهورين الوصول إلى جمهور واسع بشكل غير مسبوق. ومع ذلك، إن هذه الخوارزمية التي أثارت الإعجاب والانتقاد في آنٍ واحد، وحاول مؤسس فايسبوك مارك زوكربيرغ تقليدها بشكل فاشل، معرّضة الآن للخروج من الولايات المتحدة.

في ظل هذا المشهد المتغيّر، يبدو أنّ مستقبل صناعة المحتوى الرقمي يعتمد بشكل متزايد على القدرة على التكيف والمرونة في مواجهة الأزمات. صعود تطبيقات جديدة مثل «رِد نوت» يشير إلى أنّ السوق لا يزال مفتوحًا أمام الابتكار، وأنّ المبدعين الذين يمتلكون الجرأة لتبنّي التغيير هم من سيظلّون في الصدارة. ومع ذلك، يثير هذا الموضوع أسئلة أعمق حول حاجة المستخدمين في عالم الديجيتال إلى منصات رقمية لامركزية تقدم نموذجًا مختلفًا، فلا تكون تحت رحمة الحكومات وقراراتها. تسعى هذه المنصات اللامركزية إلى التعامل مع المحتوى الذي بذل صانعو المحتوى جهدًا كبيرًا في إنتاجه، والجماهير التي تتابعهم، باعتبارها أصولًا رقمية يجب حمايتها. ومن بين أبرز ميزات هذا النهج، تمكين المستخدمين من نقل محتواهم وجماهيرهم بسهولة من منصة إلى أخرى. الجدير بالذكر أنّ هذه الفكرة تتماشى مع مبادئ الجيل الجديد من الإنترنت، المعروف بـ «ويب 3.0»، الذي لا يزال قيد التطوير. يُتوقع أن يقدم «ويب 3.0» حلولًا لامركزية تعتمد على تقنية البلوكتشاين، ما يوفر للمستخدمين تحكمًا أكبر في بياناتهم ومحتواهم، ويقلل من الهيمنة التي تفرضها الشركات الكبرى على الفضاء الرقمي.

بالعودة إلى قصة العام، لقد حان الوقت للإشارة إلى «الفيل الكبير في الغرفة»: ماذا يعني كل ما يحدث بالفعل؟ ماذا تحاول الولايات المتحدة أن تقول للعالم، بل حتى داخلها؟ هل تخشى فعلًا تطبيقًا صينيًا؟ يبدو أن هذا هو الواقع. الادعاءات الأميركية بأنّ تيك توك يشكل تهديدًا لأنه يجمع البيانات تفتقر إلى الإقناع، خصوصًا أنّ جميع التطبيقات تقريبًا تفعل الشيء نفسه. ولكن يبدو أن المسألة تتجاوز ذلك إلى مخاوف أعمق تتعلق بالإمبريالية الأميركية التي يحاول ترامب تقليصها إلى إمبراطورية مغلقة على ذاتها.

المفارقة هنا تكمن في الخوف من تجمّع ملايين المستخدمين حول العالم في مكان واحد. خوارزميات منصات مثل فايسبوك وإنستغرام عملت طويلًا على حصر المستخدمين في «فقاعات معرفية» مغلقة، تبني عوالم صغيرة تعيد إنتاج الأفكار نفسها من دون إحداث اندماج حقيقي بين الثقافات أو القضايا العالمية. هذا لم يكن خطًا أو مصادفة، بل كان جزءًا من إستراتيجية مدروسة لشركات التكنولوجيا التي رفعت يومًا شعارات مثل «وصل الجميع»، ولكنها لم تحقق ذلك.

في المقابل، جاء تيك توك بفلسفة مختلفة: منصّة تنقل للمستخدمين ما تخفيه وسائل الإعلام السائدة، وتتيح لهم رؤية القضايا التي توحدهم حول العالم. عبر ذلك، اكتشف الناس أن لديهم الكثير من النقاط المشتركة، وأنهم يستطيعون التفاعل معًا بشكل يتجاوز حدود الثقافات والسياسات الوطنية.

وهنا يكمن الخوف الحقيقي لأولئك الذين نصّبوا أنفسهم «حراس الكوكب»: ماذا يعني أن يرى الناس، بشكل مباشر ومن دون فلترة، القضايا المشتركة التي تجمعهم؟ تيك توك فعل ما لم تفعله منصات أخرى، فهو كسر الحواجز وأعاد تعريف العولمة بشكل عكسي، من القاعدة إلى القمة، وليس العكس. ربما لهذا السبب يمثل تيك توك تهديدًا؛ ليس لأنه صيني، بل لأنه يكشف هشاشة الخطاب المهيمن الذي دائمًا ما اعتمدت عليه الإمبريالية لتقسيم الشعوب والتحكم فيها.

صوت صارخ من أجل فلسطين

في السنوات الأخيرة، أصبح تيك توك واحدًا من أهم الأدوات الرقمية التي تتيح للمستخدمين التعبير عن آرائهم ومشاركة قضاياهم، سواء كانت سياسية أو إنسانية. بالنسبة إلى الفلسطينيين، تحول تيك توك إلى منصة حيوية لرفع صوتهم إلى العالم. بفضل مقاطع الفيديو القصيرة، استطاع الفلسطينيون إيصال معاناتهم ونقل المجازر إلى الشاشات، مما جعل قضيتهم تصل إلى متابعين من مختلف أنحاء العالم.

في ظل تصاعد الاهتمام العالمي بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، واجهت إسرائيل تحديات غير مسبوقة في الحفاظ على سمعتها على منصات التواصل الاجتماعي. بعد تصاعد الهجمات على غزة ولبنان، أصبح من الصعب على إسرائيل تبرير عملياتها العسكرية، إذ فضحت منصات مثل تيك توك الانتهاكات الإسرائيلية ووسعت نطاق وصول الروايات البديلة التي تعارض السردية الإسرائيلية. ورغم قوة الإعلام الإسرائيلي على منصات تقليدية مثل فايسبوك، أظهرت التقارير (الأخبار 17 ت1/ أكتوبر 2024) ضعف إسرائيل في التأثير على الساحة الرقمية، خصوصًا في ظل الصعود الكبير لمنصات سريعة مثل تيك توك.

هذه التحولات الرقمية شكلت أزمة للكيان العبري، إذ فشل في احتكار السردية الإعلامية، مما دفعه إلى محاولات لتوظيف علاقات عامة وتقنيات جديدة لتحسين صورته. في هذا السياق، أصبح الفضاء السيبراني ساحة جديدة للنضال، مع زيادة تأثير منصات مثل تليغرام وتيك توك في تشكيل الرأي العام.

فتح تيك توك المجال للفلسطينيين للتعبير عن معاناتهم اليومية، مما ساهم في زيادة الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية. كما أن الوسوم مثل #FreePalestine و #SaveSheikhJarrah ساعدت في تشكيل حركة عالمية على الإنترنت تدعو إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني. ونذكر هنا التظاهرات الطلابية الأخيرة في كل أنحاء الغرب التي غذتها مشاهد المجازر على تيك توك. ميزة أخرى لتيك توك قدرته على نشر المحتوى بسرعة مذهلة. في وقت قياسي، يمكن لمقطع فيديو أن يصبح مادة يتداولها الملايين، مما يمنح النشطاء الفلسطينيين فرصة لحشد الدعم الدولي لحقهم في الحرية والعدالة. ولم يقتصر الأمر على النضال السياسي فقط، بل استخدم الكثير من الناشطين تيك توك للتحدث عن الثقافة الفلسطينية من خلال الفن والموسيقى والمحتوى التعليمي، مما ساعد في تقديم صورة شاملة وأكثر توازنًا للقضية الفلسطينية بعيدًا عن الروايات السائدة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد