علي حسن مراد (جريدة الأخبار)
إنّ قرار دونالد ترامب تعليق معظم المساعدات الخارجية الأميركية، لتنفيذ مراجعة تستمر لمدة 90 يوماً، تهدف إلى ضمان توافق المساعدات مع سياسة «أميركا أولاً»، قد يبدو قراراً طبيعياً ضمن توجّهه الانعزالي القائم على تقليص المصروفات الخارجية، التي يرى أنّها ليست ذات فائدة، لإعادة تحويلها للصرف في الداخل. لكن من وجهة نظر ترامب التاجر، يمكن الوصول إلى الأهداف المتوخاة من دون الحاجة إلى صرف هذه المبالغ.
كمثال يُضرَب، من الطبيعي أن يرى ترامب بأنّ تغريدة واحدة ينشرها مهدِّداً فيها كولومبيا برفع قيمة التعرفات الجمركية وبفرض عقوبات على مسؤوليها وديبلوماسييها، يمكن أن تحقّق النتائج المرجوة التي تخدم مصالح الهيمنة الأميركية، من دون الحاجة إلى صرف ملايين لتمويل منظّمات مجتمع مدني كولومبية للتأثير في السياسة الرسمية للدولة لإقناعها أو إجبارها بأسلوب إكراهي ناعم على قبول المُرحَّلين إليها من الولايات المتحدة. لكن مقاربته هذه لا يوافق عليها الكونغرس، الذي كان في ولايته الأولى يندفع ممثلاً عن مصالح الدولة العميقة لكبح جماحه وإجباره على الاستمرار بتمويل كثير من البرامج الخارجية.
خلال ولايته الأولى (2017-2021)، سعى ترامب إلى تقليص ميزانيات المساعدات الخارجية بشكل أقل راديكالية مقارنة بتوجّهه الحالي في ولايته الثانية. في مسوّدة ميزانية عام 2018، طلبت إدارته من الكونغرس خفض ميزانية وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID بنسبة تقرب من 30%. كان من بين هذه التخفيضات المقترَحة تقليص التمويل المخصَّص لبرامج الصحة العالمية، بما في ذلك مكافحة الإيدز والملاريا، إضافة إلى خفض المساعدات الإنسانية والتنموية، وكل البرامج المتعلّقة بـ «دعم الديموقراطية» وحقوق الإنسان. تُظهِر الأرقام أنّ دونالد ترامب اتخذ قراره بتخفيض الموازنات في الخارجية الأميركية ووكالة USAID وصندوق دعم الديموقراطية NED للعام المالي 2018، لكنه اختار بأن يرفع الموازنات عامَي 2019 و2020، ليعود ويطلب خفضها للعام المالي 2021.
كيف يمكن تفسير ذلك؟ ربّما نجح فريقه آنذاك بإقناعه بأنّ توجّهه بعد انسحابه من الاتفاق النووي مع إيران وفرضه «العقوبات القصوى» عليها، وكذلك محاولاته إسقاط نظام مادورو في فنزويلا، وغيرها من المشاريع، كانت تتطلّب زيادة التمويل مجدداً للصرف على مشاريع إسقاط الأنظمة المعادية لأميركا. يدّعي الرئيس الأميركي حالياً أنّه لن يبني قراراته على هوى الدولة العميقة، ويتوعّد بمعاندتها وانتهاج ما يقلّص قدرتها على توجيه السياسة الخارجية. لكن بالنظر إلى سلوك أنصار تيار العولمة الثقافية النيوليبرالية، المتحالفين عضوياً مع الديموقراطيين، من المرجَّح أن يسعى هذا التيار إلى محاولة جسر الهوّة التي سيحدثها قرار ترامب، عبر تكثيف مقاولي القطاع الخاص تمويلهم البرامج التي سيوقف ترامب التمويل الرسمي للحكومة الفيدرالية عنها. لذلك من المرجَّح أن تتحرّك مؤسسات كتلك التابعة لجورج سوروس ونجله ومؤسسة بيل غيتس ومؤسسة فورد وغيرها من المؤسسات الأميركية وحليفاتها الأوروبية في مجال التمويل لمنظمات المجتمع المدني في منطقتنا وباقي أرجاء العالم، مع أنّ مقدّراتها ستكون مخصّصة بالدرجة الأساسية لتمويل برامج داخل أميركا ضمن معركتها الشرسة ضد الترامبية وما تمثّله.