اوراق مختارة

"إسرائيل"... فرصة أخيرة قبل نهاية التاريخ

post-img

حسن شاهين (الأخبار)

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، بدأت "إسرائيل" تسلّم الدفعة الأولى من طائرات F15i ضمن صفقة للتحديث الشامل والنوعي لأسطولها من طائرات F15 وF4e وA - 4 و"سكاي هوك". وقامت شركة "ماكدونيل دوغلاس" المصنِّعة للطائرة بإدخال تعديلات كبيرة عليها لتتوافق مع متطلبات سلاح الجو الإسرائيلي، لذلك تمّت إضافة الحرف الإنكليزي "i" لاسم الطائرة كناية عن "إسرائيل" وأطلق الجيش "الإسرائيلي" عليها الاسم العبري "رعام".

إلا أن بعض الصحافيين الخبثاء اعتبروا أن الحرف "i" يشير إلى إيران لأن التعديلات التي أُدخلت على النموذج "الإسرائيلي" للمقاتلة الأميركية جعلتها مناسبة لتنفيذ عمليات قصف في إيران حتّى من دون الحاجة إلى التزود بالوقود في الجو. وكان من أبرز التعديلات زيادة مدى الطيران ليصل إلى 4450 كيلومترًا دون تقليل وزن الحمولة من القنابل، وتجهيز الطائرة بأجهزة تشويش إلكتروني أكثر تطوّرًا. استعداد الجيش "الإسرائيلي" لتوجيه ضربة لإيران لم يبدأ في ذاك التاريخ بل مبكّرًا منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية.

إسرائيل كانت تحذّر باستمرار من البرنامجيْن النووي والصاروخي لإيران، وتعتبرهما تهديدًا إستراتيجيًا لها، لكنّ خلف هذا التحذير مبدأً مركزيًا بل وجوديًا في عقيدتها السياسية؛ هو عدم السماح لأي دولة في الإقليم ببناء توازن عسكري إستراتيجي معها، حتّى لو لم تكن تلك الدولة في حالة عداء معها.

لذلك، عملت "إسرائيل" منذ تأسيسها، وبكل الوسائل، على إحباط أي محاولة تقدّم تقني أو صناعي أو اقتصادي لأي دولة في الإقليم، خاصة جوارها، تفضي إلى تطوّر عسكري يُخلّ بحالة الخلل في التوازن العسكري الموجود. ويبدو أن هناك اتفاقًا غير مُعلن بين دول الغرب على مبدأ تفوّق "إسرائيل" ومعها روسيا في ذلك، حتّى الاتحاد السوفياتي كان يزوّد حلفاءه العرب بأسلحة دفاعية ويمنع عنهم الأسلحة الهجومية المتطوّرة.

انطلاقًا من ذلك يمكن فهم ضغط الولايات المتحدة على مصر لإلغاء صفقة طائرات "سوخوي 35" كانت قد وقّعت اتفاقية لشرائها من روسيا عام 2019، والذي وصل إلى حد تلويح وزير الخارجية الأميركي السابق مارك بومبيو بالعقوبات إن أصرّت على إتمامها. كذلك يمكن فهم رفض أميركا تزويد تركيا بطائرات F35 التي كانت قد تعاقدت عليها ودفعت بالفعل مبلغًا مقدّمًا قدره مليار وأربعمئة ألف دولار للحصول على 100 طائرة منها. أخيرًا، عبّر قادة سياسيون وعسكريون إسرائيليون عن قلقهم من تسلّح الجيش المصري، وبعد ظهور تقارير عن انفتاح ترامب على إحياء صفقة F35 التركية سارعت "إسرائيل" للإعراب عن قلقها، رغم أن هناك اتفاقية سلام مع مصر وعلاقات طبيعية مع تركيا.

هناك شواهد تاريخية عدّة لإجهاض "إسرائيل" محاولات دول المنطقة بناء قدرات عسكرية وعلمية نوعية، منها عملية ضرب مفاعل تموز العراقي عام 1981، وبعدها عملية ضرب المفاعل النووي السوري السرّي في دير الزور عام 2007، وبينهما التآمر مع الهند لضرب البرنامج النووي الباكستاني عام 1984، والذي فشل بعد تدخّل الولايات المتحدة التي خشيت من خسارة دور باكستان في دعم "المجاهدين" الأفغان ضدّ الاتحاد السوفياتي كردّ فعل متوقّع على ضربة بهذا الحجم.

مما سبق يمكن الجزم بأن الموقف "الإسرائيلي" من برنامجي إيران النووي والصاروخي ما كان ليتغيّر لو لم تدعم إيران حركات المقاومة في المنطقة. فإسرائيل وُجدت لتكون منصة عسكرية واستخباراتية للهيمنة الأميركية والغربية على المنطقة، وليتحقق ذلك يجب أن تمتلك تفوّقًا عسكريًا كبيرًا على القوى كافة في المنطقة، وقدرة عملياتية تمكّنها من إطلاق قوة صاعقة توقع ضررًا كبيرًا وخلال وقت قصير، في أي قوة إقليمية.

وهكذا كان عدوانها الأخير على إيران، صاعقًا وصادمًا في أيامه الأولى، التي منيت فيها إيران بخسائر كبيرة على المستوى العسكري والقيادي، كان يمكن أن تؤدي إلى أنهيار سريع خاصة على المستوى النفسي، لكن إيران التقطت أنفاسها واستطاعت ردّ العدوان بقدر من الندّية. ربما لم تكن ضربات إيران بقوة الضربات الإسرائيلية (لم تفصح "إسرائيل" بشكل رسمي عن خسائرها العسكرية)، إلا أن قدرتها على الرد المؤثّر استمرت حتّى آخر الحرب. لو صحّت ادعاءات "إسرائيل" بأنها قد دمّرت معظم قدرات إيران الصاروخية البعيدة المدى فلماذا أوقفت الحرب ولم تستمر حتّى تدمّرها بالكامل وتُظهر النظام الإيراني عاجزًا؟

ربما كان من أبرز نتائج الحرب إظهار حدود القوّة الإسرائيلية، فامتلاك تفوّق عسكري وقوة صاعقة أمر مهم لكنّه غير حاسم إن امتلك الخصم القدرة على أمرين؛ الصمود لفترة طويلة والرد المؤلم على العدوان، وهو ما أبدته إيران. وجاء التدخل الأميركي كمشهد ختامي لإنهاء الحرب لا كفعل عسكري حاسم. فانتهت الحرب ولم يتم تدمير البرنامجين النووي والصاروخي لإيران، ولا إنهاء نفوذها في المنطقة، وهي الأهداف الثلاثة التي أعلنها نتنياهو وهو منتشٍ بنجاحات الأيام الأولى.

إيران تلقّت ضربة قاسية من "إسرائيل" وأميركا، لكنّها لم تكن قاصمة، وهذا هو المهم. هناك من يجادل أن هذه الحرب هي جولة، وربما كان الهدف منها إضعاف إيران تمهيدًا لجولة أو جولات قادمة، لكنّ السؤال هنا: هل الظرف الدولي في المستقبل القريب سيسمح لـ"إسرائيل" بذلك؟ إنّ جزءًا من إجابة هذا السؤال قدّمه الكاتب ستيفين والت حين شكّك، في مقال نُشر في حزيران 2025 في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، في قدرة "إسرائيل" على فرض هيمنتها على المنطقة.

بحسب والت، فإن "إسرائيل" تمتلك ما يكفي من قوة للدفاع عن نفسها من دون مساعدة أحد، مذكّرًا بأنها تمتلك السلاح النووي، لكنّها - وهي الدولة الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها عن عشرة ملايين نسمة ربعهم من غير اليهود - ولتتمكّن من فرض إرادتها على دول المنطقة الكبيرة لا بد أن تستند إلى القوّة الأميركية والغربية.

لماذا ما قاله والت يشكّل جزءًا من الإجابة عن السؤال أعلاه؟ لأننا نشهد تسارعًا في تغيّر موازين القوى الدولية ربما كان غير مسبوق في التاريخ؛ يكفي أن نتأمّل في الصعود المذهل لدول الاقتصادات الناشئة وفي مقدّمتها الصين خلال الأعوام العشرة الأخيرة وما نتج من ذلك من تغيّر في موازين القوى الدولية، وعليه يمكن أن نفكّر بشكل النظام العالمي بعد عشرة أعوام من الآن. نستطيع الجزم بأنه في عالم المستقبل القريب لن تكون الهيمنة الأميركية على المنطقة كما هي اليوم، ربما ستنتهي أو تتراجع إلى حدّ بعيد، مع تصاعد نفوذ قوى دولية جديدة وقوى إقليمية كبيرة.

ستبقى "إسرائيل" قادرة على الدفاع عن نفسها بفاعلية إلا أنها لن تكون قادرة على الاستمرار في سياستها العدوانية لأنها إن فعلت ستجد نفسها في مواجهة مباشرة مع الكبار، دون أن تتلقّى القدر نفسه من دعم القوّة الأميركية/الغربية مع تراجع نفوذها في المنطقة، والتي كانت حاسمة في كلّ ما حقّقته "إسرائيل" ضدّ حزب الله وفي غزّة وإنجازات الأيام الأولى من حربها على إيران.

إنّ تصريحات نتنياهو الكثيرة منذ بدء الحرب على غزّة حول أن بلاده أمام فرصة تاريخية لتغيير وجه المنطقة، يمكن فهمها من جهتين: الأولى، أنها فرصة تاريخية غير مسبوقة لتحقيق أهداف "إسرائيل"، والجهة الثانية هي الإدراك العميق لدى نتنياهو والمؤسسة الإسرائيلية أن هذه الفرصة قد لا تتكرّر لأن الحقبة التاريخية التي هيمن فيها الغرب على العالم في الهزيع الأخير، وفجر تاريخ ما بعد الغرب بدأ يلوح في الأفق.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد