شفيق طبارة/ جريدة الأخبار
في العام الماضي، طرقت التوترات الجيوسياسية بابه وعرّضته لعواصف كثيرة، أهمها الإبادة الجماعية في غزة. هذه السنة، لا يختلف الوضع كثيراً، إذ انطلقت باكراً دعوات المقاطعة وألقت بثقلها على أحد أكثر المهرجانات السينمائية شعبيةً في أوروبا
تغييرات كبيرة بدأنا بملاحظاتها في «مهرجان برلين السينمائي الدولي» الذي تنطلق دورته الخامسة والسبعون اليوم حتى 23 شباط (فبراير) الحالي. كان «برلين» وما زال مهرجان العامة، يختلف عن «مهرجان كان» الذي يجمع النخبة السينمائية، ويقدّم أفلاماً لمخرجين كبار يتنافسون على أهمّ جائزة سينمائية، فيما يقتصر الحضور على الدعوات والعاملين في القطاع السينمائي. ويختلف «برلين» أيضاً عن «البندقية» الذي يكون عادةً المدخل الأساسي لأفلام جوائز الأوسكار. ورغم أنّ هناك عروضاً للعامة، إلا أنّ «البندقية» لا يستقدم الكثير من الناس.
أما «برلين» فهو المهرجان الذي يحتضن الجمهور. هنا يمكن للجميع أن يشاهدوا الأفلام، ويتوافدون من مختلف المناطق الألمانية، فتنفد البطاقات قبل حتى انطلاق المهرجان.
في السنوات السابقة، كانت جودة الأفلام المعروضة في المهرجان لا ترتقي إلى أهميته. مع ذلك، لا يمكن التنبّؤ بما سيقدّمه، فهو مهرجان المفاجآت السلبية والإيجابية.
على الرغم من أنّ المسابقة الرسمية هي التي تحظى بالضوء، إلا أنّ مسابقات مثل «المنتدى» و«بانوراما» هي التي تقدم أفلاماً تثير اهتماماً أكبر وتحفز وتتحدى أكثر من الخيارات التي تعرض في المسابقة الرسمية. هذه السنة، تغيّرت الأمور قليلاً، فلننتظر ونرى ما يحمله لنا «برلين»!
يفتخر الحدث بأنه الأكثر إثارة للجدل بين المهرجانات السينمائية الأوروبية الثلاثة الكبرى. في العام الماضي، طرقت التوترات الجيوسياسية بابه وعرّضته لعواصف متعددة، أهمها الإبادة الجماعية في غزة. هذه السنة، لا يختلف الوضع كثيراً، إذ انطلقت باكراً دعوات لمقاطعة المهرجان (راجع الكادر أدناه)، وألقت بثقلها على المهرجان قبل أن يبدأ.
هذه السنة، تولّت إدارة جديدة قيادة «البرليناله»، إذ تتولى المبرمجة الأميركية تريشيا توتل الإدارة الفنية، بعدما كان للمهرجان قبّة تنفيذية مزدوجة في السنوات الأربع الماضية، على رأسها كارلو شارتيان ومارييت ريسينبيك.
جورج خباز في فيلم «يونان»
سوف تتحمّل تريشيا توتل مهمة إعادة المهرجان إلى رونقه السابق بعد سلسلة الإخفاقات والنقد التي تعرّض لها في السنوات الأخيرة. وعند الإعلان عن تشكيلة الأفلام المعروضة، ناقشت توتل رغبتها في توسيع المهرجان، فضلاً عن الحفاظ على جذوره السياسية، قائلةً: «لا يمكن أن نخجل من السياسة. يمكن القول إنه الحمض النووي للمدينة والمهرجان نفسه».
تضمّ لجنة تحكيم هذه السنة كلاً من: النجمة الصينية فان بينغ بينغ، والمخرج المغربي نبيل عيوش، ومصمّمة الأزياء الألمانية بينا دايغلر، والمخرج الأرجنتيني رودريغو مورينو، والناقدة السينمائية إيمي نيكلسون والممثلة والمخرجة ماريا شرادر. وكما أُعلن سابقاً، سيرأس اللجنة المخرج تود هايز. ومن المقرّر أن ينافس 19 فيلماً في المسابقة الرسمية، من بينها تسعة تحمل توقيع مخرجين عرضوا أفلامهم في «البرليناله» سابقاً. وسيقدّم 22 فيلماً في العروض الخاصة، مع مسابقة جديدة واعدة بعنوان «رؤى» تعرض 14 فيلماً.
يتألف برنامج «بانوراما»، المفضل لدى الجمهور، من 35 فيلماً من 28 دولة. وسيفتتح المهرجان فيلم «الضوء» الذي يعيد المخرج توم تيكوير إلى الشاشة الكبيرة بعد سبع سنوات، وأربعة مواسم ككاتب ومخرج للمسلسل الناجح «بابيلون برلين». كما سيقدَّم في العروض المميزة فيلم الكوميديا السوداء الخيالية العلمية Mickey 17 للمخرج بونغ جون هو، وهو أول فيلم له منذ Parasite الحائز جائزة الأوسكار.
من بين الأفلام المختارة للمسابقة الرسمية أفلام جديدة لريتشارد لينكليتر، وهونغ سانغ سو، وميشال فرانكو، ورادو جود.
يعود الأميركي لينكليتر بفيلم «القمر الأزرق» الذي يتتبع الأيام الأخيرة من حياة كاتب الأغاني الأميركي الشهير لورينز هارت. ويقدم المكسيكي ميشال فرانكو، الذي فاز سابقاً بجوائز في «كان» و«البندقية»، أحدث أفلامه في برلين. تحت عنوان «أحلام»، يقدّم فرانكو قصة حب بين سيدة مجتمع وراقصة باليه. ويعود الروماني رادو جود، الذي فاز بجائزة «الدب الذهبي» في «برلين» عام 2021 عن فيلمه Bad Luck banding Or Loony Porn، بفيلم «كونتيننتال 25».
يتناول الفيلم الكوميدي الأسود قضايا مثل أزمة الإسكان وصعود القومية. كذلك، يعود الكوري الجنوبي هونغ سانغ سو، الذي يشارك كل سنة تقريباً في «برلين» و«كان» و«البندقية»، بفيلم «ماذا تقول لك هذه الطبيعة» الذي يركز على شاعر شاب يقضي اليوم مع عائلة صديقته. علماً أنّ سانغ سو فاز بأربع جوائز «دب فضي» في السنوات الخمس الماضية. وتشارك البريطانية ريبيكا لينكيويكز بفيلمها الطويل الأول «حليب ساخن» المقتبس عن رواية ديبورا ليفي بالعنوان نفسه. يستكشف الشريط تعقيدات العلاقة بين الأم وابنتها، فيما تولّت مصمّمة الصوت اللبنانية رنا عيد، تصميم الصوت في الفيلم.
وينافس على الجائزة أيضاً «برج الثلج» (إخراج لوسيل هادزيهاليلوفيتش) الذي تدور أحداثه في فرنسا في سبعينيات القرن الماضي. كما يشارك من فرنسا فيلم «آري» لليونور سيرايّ، الذي يدور حول شاب عند مفترق طرق في الحياة. وهناك فيلمان صينيان في المسابقة هما «عيش الأرض» الفيلم الثاني للمخرج هوو مينغ الذي يحكي قصة فتى صيني يصارع التقاليد الريفية وسط تغيرات اقتصادية واجتماعية تشهدها قريته، بينما يدور Girls On Wire (إخراج فيفيان كو) حول اثنين من أبناء العم يكافحان للتحرر من الأسرة والمجتمع وسط التغيرات السريعة في الصين. الوثائقي الوحيد في المسابقة هو Timestamp للمخرجة الأوكرانية ماترينا جورنوستاي الذي يروي الحياة اليومية للمعلمين وأطفال المدارس في أوكرانيا تحت الأحكام العرفية أثناء الحرب المستمرة.
المشاركات العربية: كوارث وحروب
الفيلم العربي الوحيد المشارك في المسابقة الرسمية هو «يونان» للمخرج السوري أمير فخر الدين. تدور الأحداث في جزيرة نائية، حيث يبحث منير (جورج خباز) عن العزلة للتأمل في خطوته الأخيرة، فيجد العزاء في الوجود الهادئ لفاليسكا (هانا شيغولا) التي أشعلت شفقتها إرادته المتلاشية للعيش. لدى التحدث عن فيلمه، قال فخر الدين: «بدأ فيلم «يونان» كتأمل في النزوح والمساحات الهادئة التي يخلقها النزوح داخلنا وحولنا. أردت استكشاف ما يحدث عندما يختفي المألوف، عندما ينكسر شعور الوطن والانتماء، تاركاً لنا مهمة الإبحار في الصمت الذي يليه». الفيلم من تأليف وإخراج ومونتاج أمير فخر الدين، ويضم فريق التمثيل جورج خباز والممثلة الألمانية الكبيرة هانا شيغولا، إضافة إلى الممثل الفلسطيني علي سليمان.
في مسابقة «رؤى» (Perspectives) الجديدة، يشارك الفيلم المصري «المستعمرة» للمخرج محمد رشاد. الفيلم مستوحى من أحداث حقيقية عن شقيقين يعيشان في مجتمع مهمش في الإسكندرية، حيث عُرضت عليهما وظائف من قبل المصنع المحلي بعد وفاة والدهما في حادث عمل كتعويض عن خسارتهما بدلاً من رفع دعوى قضائية. وبينما يتوليان عملهما الجديد، يبرز لديهما التساؤل عما إذا كانت وفاة والدهما عرضية حقاً.
تشارك الفلسطينية عريب زعيتر بفيلمها الوثائقي «يلا باركور» الذي يستكشف مجتمع الباركور، والأشخاص الذين يمارسون هذه الرياضة الجريئة في غزة.
ومن السودان، تعاون خمسة مخرجين لإخراج فيلم «خرطوم». يتناول الوثائقي خمسة أشخاص مختلفين تمكنوا من الفرار من العاصمة السودانية في أعقاب الحرب.
أما المخرجون، فهم: أنس سعيد، وراوية الحاج، وإبراهيم سنوبي أحمد، وتيميا محمد أحمد مع المخرج الإبداعي والكاتب فيليب كوكس. الحرب تخيم أيضاً على فيلم محمد إبراهيم «آخر يوم».
يتناول الوثائقي قصة شقيقين مصريين ينقلان أثاثهما من منزل طفولتهما (المقرر هدمه)، ويستمعان إلى أخبار تدمير منازل الفلسطينيين ويتأملان الموقفين. ومن مصر أيضاً، يقدّم كريم الشناوي «سيرة أهل الضي» عن مراهق نوبي يتمتع بصوت ذهبي، ويكنّ إعجاباً كبيراً بالمغني المصري محمد منير. وبعدما رأت عائلة المراهق موهبته، قررت السفر «إلى القاهرة لتجربة أداء في برنامج «ذا فويس»».
من العراق، يقدم المخرج علي يحيى فيلمه القصير «تحت أي الأنهار تتدفق» حول شاب يدعى إبراهيم يعيش في مستنقعات في جنوب العراق مع رفيقه الجاموس. يعيش الثنائي على ما يرام إلى أن تأتي كارثة بيئية تقلب حياتهما رأساً على عقب.
تبييض جرائم الحرب والإبادة الجماعية
دعت «حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ «إسرائيل» (PACBI) لمقاطعة «مهرجان برلين السينمائي الدولي» بسبب تواطئه مع الإبادة الجماعية في غزة.
وقالت الحملة في بيانها إنّ «المهرجان، الذي يموّله ويشرف عليه بشكل مباشر مسؤولون ألمان متّهمون بدعم الاحتلال، اتخذ مواقف علنية تُشرعن الجرائم الإسرائيلية وترفض التضامن مع الفلسطينيين». وأضافت: «في العام الماضي، تعرّض صنّاع أفلام للملاحقة السياسية والهجوم الإعلامي لمجرد مطالبتهم بوقف إطلاق النار في غزة. ورغم دعمه مواقف سياسية أخرى، فشل المهرجان في الدفاع عن حرية التعبير الخاصة بفنانين متضامنين مع فلسطين، ما يُظهر تواطؤه في تبييض جرائم الحرب والإبادة الجماعية».
واستنكرت الحركة مشاركة صنّاع الأفلام في المهرجان، متسائلةً: «كيف يمكن للعاملين في صناعة الأفلام أن يشاركوا بضمير حي في مهرجان متواطئ في التدمير المنهجي للثقافة الفلسطينية وحياة الفلسطينيين وسبل عيشهم؟».