في الماضي كان مختار الضيعة يشكل رمزًا من رموز المنطقة ووجهائها، كان بمثابة الشخصية الأولى في بني قومه، يتمنع بمكانة اجتماعية كبيرة في بلدته وله علاقات ونفوذ في دوائر الدولة الرسمية، إليه تعود كافة أمور الناس، يحل مشاكلهم وييسّر أمورهم، يمثلهم في الخارج عند أهل السلطة والزعماء والقرى المجاورة.
من أين أتت تسمية المختار؟
يعود تاريخ "المخترة" الى قانون الولايات الذي أصدرته الدولة العثمانية عام 1864، وبموجب هذا القانون جرى تقسيم الدولة العثمانية إلى ولايات، والولايات قُسِّمت إلى ألوية. والولاية تدار على يد متصرف يعين من قبل الباب العالي في إسطنبول، وكل لواء يقسّم إلى أقضية ، أما الأقضية فقسمت إلى نواحي تدار على يد مدير الناحية. وتضم الناحية عدة قرى، ينوب في كل منها عن مدير الناحية احد سكانها يعرف باسم "المختار" أي لغويًا" الذي تم اختياره من قبل سكان القرية بإشراف مسؤول حكومي كمدير الناحية او القائم مقام، حيث يطلب من سكان القرية ترشيح أشخاص بالغين، ويقوم باختيار الأفضل منهم، وفق معايير محددة، من أهمها أن يكون المختار من أصحاب الأملاك، ومن عائلة أو عشيرة كبيرة، وان يتصف بالحكمة والذكاء والدهاء والفطنة، وان يكون كريم النفس جواداً وصبوراً ذا مهابة، له شخصية كبيرة، ويُحسب له كل حساب، ويجيد تدبير الأمور، ويلقى قبولاً حسناً لدى سكان القرية.
من هنا جاءت تسمية المختار بهذا الاسم. وكانت شخصية "المختار" جزءاً من النسيج الاجتماعي اللبناني، خاصة في مناطق الأرياف، تجتمع فيها الكثير من الصفات والخصال الحميدة، وتجسد واقع المجتمع الذي تعيش فيه، فكان لكل قرية مختار أو اكثر، وذلك حسب عدد نفوس القرية، وغالبا ما كانت أعمار المخاتير كبيرة نسبيا.
المختار في العهد العثماني
كان المختار في العهد العثماني يمثل سكان قريته أو عشيرته أمام الجهات الحكومية، وهو حلقة الوصل بين سكان القرية والجهات الرسمية، والعين الساهرة على مصالح أهلها، وكان من أهم وظائفه حلّ النزاعات بين الناس، وتمثيل البلدة أمام الجهات العليا في الدولة، وبناء علاقات متينة وصلات قوية مع كَثير من المسؤولين، وذلك ليتمكن من خدمة بلده وأهلها. ناهيك عن اعتبار وظيفة المختار نوعًا من الوجاهة والمكانة الاجتماعية، حيث يعتبر المختار من الناحية العشائرية من أبرز وجهاء القرية.
وكان بيت المختار أو "مضافته" مقصداً للضيوف والوفود الرسمية والشعبية وعابري السبيل، وكان عليه استقبال رجال الشرطة، الذين كانوا لا يدخلون بيتاً من بيوت البلدة إلا والمختار معهم. وكان عليه أن يستضيف ممثلي السلطة القادمين إلى القرية، وتقديم وجبات الطعام لهم، وتأمين المبيت لهم إذا اقتضت الضرورة ذلك، كما كان عليه الالتقاء بالحاكم الإداري أو متصرف المدينة، ليعرض أمامه احتياجات أهل القرية، ويسعى لتلبية احتياجاتهم في نطاق قدرته وصلاحياته. وفي الكثير من الحالات كان منصب المختار وراثيًا للابن أو الأخ أو اقرب الأقربين.
كما أن المختار إلى جانب كونه وجها اجتماعياً معروفا، شكّل أهمية بالغة من الوجهة السياسية، فكانت مجموعة المخاتير تمثل الحكومة في المنطقة وممثلة للسلطة السياسية، فلكل عشيرة مختار يمثل أفرادها التي ينتمي إليها أمام الجهات الرسمية.
مهام المختار
في لبنان يتألف المجلس الاختياري في المدن والقرى من مختارٍ وثلاثة أعضاء، أما في الأحياء فيتم انتخاب مختار بدون أعضاء اختياريين، ويُنتخب المختار والأعضاء الاختياريون لمدة ست سنوات.
وإضافة إلى المهام الروتينية العادية للمختار وهي المهام التي عرفها الناس واعتادوا عليها فإن ثمة مهمات أخرى للمختار ومنها معاملات السفر، معاملات حصر الإرث، عقد رهن أو بيع، التصديق القانوني على الإمضاء، إعطاء شهادة تختص بإثبات حجز الأملاك، تسجيل قائمة جرد التركة، حصر الأملاك، وكذلك للمختار مهمات كثير تتعلق بالأحوال الشخصية، كالمحافظة على سجل نفوس القرية أو المحلّة وقيد جميع الوقوعات الجديدة التي تبلغ إليه من دائرة النفوس، والتصديق على وثيقة الزواج أو الطلاق أو فسخ الزواج، وغيرها.
بالإضافة إلى مهمات تتعلق بالشؤون المالية، كمساعدة الجباة ومعاونتهم في استيفاء الضرائب وإجراء معاملات الحجز على أملاك المكلفين ومساعدة مأموري المالية وإدارة حصر التبغ في القيام بوظائفهم في المنطقة، فضلاً عن مهمات تختص بشؤون العدلية والشؤون العقارية والزراعية والصحية والمعارف والفنون الجميلة.
ما سبب فقدان المختار لمكانته؟
مع عودة الانتخابات البلدية والاختيارية عام 1998للمرة الثانية، وذلك بعد انقطاع دام لحوالي 35 عامًا، حيث جرت في العام 1963 أول انتخابات بلدية شاملة في لبنان، بدأ المختار يفقد مكانته الاجتماعية في بلدته حتى أن كثيرين من الناس لم يعد يعرفونه أو حتى يسمعون به، إذ أنه في حالات كثيرة تدخل دوريات الأمن الداخلي الى القرية ولم يعرف المختار إلا من الناس بهم.
هذه المكانة التي افتقدها المختار لها أسبابها؛ فمن المعروف أن الدولة العثمانية التي كانت تنّصب المختار زعيمًا على قريته وتحمّله أمور حياتها، لكن مع انشاء دولة لبنان الكبير ذات النظام الديمقراطي، بدأ المختار يفتقد شيئًا فشيئًا هذا الإرث على حساب السلطة المركزية المتمثلة بالحكومة ووزرائها وتحديدًا وزارة الداخلية التي أعطت المجالس البلدية غالبية صلاحيات الشؤون الإنمائية داخل البلدة، ما أفقد المختار صلاحية التواصل مع مؤسسات الدولة في معظم الأمور، وما زاد من الطين بلة أن أكثرية القرى في لبنان أصبح لديها أكثر من مختار واحد وفي بعضها تجاوز العدد 4، وهكذا توزعت مهام المختار على عدة أشخاص.
عودة الإقبال على التّرشح "للمخترة"
على وقع "الحماوة" التي تشهدها الانتخابات البلدية والاختيارية في هذا العام 2025، يبرز بشكل لافت الإقبال على الترشح لـ"المخترة"، على عكس ما هو الحال بالنسبة لعضوية المجالس البلدية. إلا أن ما ينبغي التوقف عنده أن الغالبية تجهل الدور الذي يجب أن يقوم به المختار، مكتفية بالنظرة إليه على أنه "معقب معاملات"، وبالتالي تحول المنصب إلى مصدر للكسب المادي بالدرجة الأولى.
هنا، من الممكن الإشارة إلى أنه في الذاكرة اللبنانية "هالة" كبيرة لموقع "المختار"، الذي كان ينظر إليه على أساس أنه رئيساً للجمهورية في بلدته، بسبب الأدوار المتعددة التي كان يقوم بها، على عكس ما هو الحال اليوم حيث فقد المنصب الكثير من وهجه، ما يدفع العديد من المخاتير الكبار إلى التعبير عن حسرتهم بسبب ذلك.
ورغم أن مهام المختار ما زالت كثيرة، إلا أن غالبية المخاتير تهتم بالأمور التي لها مردود مالي وخاصة في المناطق المكتظة سكنياً، حيث تصبح "المخترة" بمثابة وظيفة، لا بل أن غالبية المخاتير في المدن لديهم "سكرتيرات"، على عكس ما هو الحال في القرى والبلدات الصغيرة، خصوصاً أن المختار فيها، في أحيان كثيرة، لا يتقاضى رسوماً عالية من أبناء البلدة، في حين أن غالبية من يتعاملون معهم، في تلك المكتظة، لا يكونون من الناخبين.
ومع أن المختار له مجموعة من الوظائف الهامة، وبالتالي هو لا يجب أن يكون، كما هو الحال اليوم، مجرد معقب معاملات، فهو من المفترض أن يكون الحارس الأمين على البلدة، له سلطة الرقابة والمعارضة أكثر من أي عضو بلدي، لا بل يؤكد أن من يعرف صلاحياته يدرك أنه أهم من رئيس البلدية أو حتى النائب ضمن نطاق البلدة، فهو له علاقة مع مختلف الأجهزة وهو أيضاً ضابط عدلي ومساعد للنائب العام، ويختصر الأمر بالقول: "هو مسؤول عن الأرض وعن النفوس".
وفي هذا السياق، يشير الباحث للدولية للمعلومات محمد شمس الدين إلى أنه في لبنان هناك نحو 3082 مختارًا لانتخابات 2025 خصوصاً أن في العديد من المدن والبلدات هناك أكثر من واحد، حيث يلفت إلى أنه في بيروت وحدها هناك نحو 102، ويلفت إلى أن الإقبال على الترشح في هذه الدورة يعود إلى أن "المخترة" بات باباً للكسب المادي، لا سيما في المدن الكبرى، حيث من الممكن القول إن مدخول المختار لا يقل عن 300 دولار أميركي، نظراً إلى أن الأمور "فلتانة".
لكن الوضع في القرى ما زال يختلف عن المدن، إذ أن المختار كثيرًا ما يُيسّر أمور الناس من دون أي مقابل مادي، كون أن غالبية أهل القرية هم من أصدقائه وأقاربه وكونه توارث هذه التربية من أبائه.