اوراق مختارة

نموّ اسمي خادع بـ4.7 مليارات دولار اقتصاد: لبنان ينكمش 7.5% في 2024

post-img

ماهر سلامة (جريدة الأخبار)

ارتفع الناتج المحلّي اللبناني في سنة 2024 من 23.6 مليار دولار إلى 28.3 مليار دولار، بحسب صندوق النقد الدولي. يمثّل هذا الارتفاع نموّاً بنسبة تصل إلى 20%، إلا أن الوضع «الحقيقي»، بحسب الصندوق أيضاً، يمثّل انكماشاً بنسبة 7.5%. فهل يُعقل أن يشهد الاقتصاد نموّاً وانكماشاً في الوقت نفسه؟

نعم، هذا ممكن في ظل وجود معدّل تضخّم بالدولار يبلغ 45%، إذ إن النموّ الفعلي هو الفرق بين النمو الاسمي الذي يدخل التضخّم في حسابه وبين النمو الحقيقي للاقتصاد.

يقيس النمو الاسمي الزيادة في قيمة الناتج المحلّي الإجمالي أو أي مؤشر اقتصادي آخر بأسعار السوق الجارية، أي إنه يجمع الزيادة الكميّة في الإنتاج مع تغيرات الأسعار (التضخّم أو الانكماش)، لذا قد يعطي انطباعاً خادعاً بارتفاع النشاط الاقتصادي حتى لو كانت الزيادات ناتجة بمجملها من التضخّم.

أما النموّ الحقيقي، فيعزِل تأثر التغيّرات في الأسعار عبر استخدام أسعار ثابتة (سنة أساس محددة)، ليظهر الزيادة الحقيقية في حجم الإنتاج والسلع والخدمات. وهذا الأخير، هو المؤشّر الأصحّ لمعرفة مدى توسع الاقتصاد فعليّاً وتقدّم الإنتاج الوطني من دون تشويه التضخّم للواقع.

لكن، هذا الأمر يطرح سؤالاً عمّا إذا كان مؤشّر التضخّم الذي يجب أن يُستخدم في هذه العملية هو مؤشّر أسعار الاستهلاك. يقول رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق الدكتور عبد الحليم فضل الله إن ما يمكن أن يعبّر أكثر عن حالة التضخّم في هذا السياق هو «مؤشّر أسعار المنتجين، أو ما يُعرف بالـ«producer price index»، ولكن المشكلة هي أنه في لبنان هذا المؤشّر غير متوافر، لذلك يُستخدم مؤشّر أسعار الاستهلاك».

من هذا المنطلق يمكن أن نلحظ أن النمو الاسمي في لبنان بلغ 19.8% عبر احتساب النموّ بين 23.6 مليار دولار في سنة 2023 و28.3 مليار دولار في 2024. لكن عند الاتجاه لاحتساب النموّ «الحقيقي» للناتج، لا بد من إدخال معدّل التضخّم إلى العملية الحسابية. فيتم احتساب معدل النمو الحقيقي، بالاستناد إلى الناتج الاسمي بعد «إلغاء» أثر التضخّم من الزيادة الكلية في القيمة السوقية للإنتاج.

عملياً، معدّل التضخّم في 2024 بلغ بحسب صندوق النقد 45.2%، وهذا التضخّم هو بالدولار، لأن سعر الصرف في لبنان لم يتغيّر في هذه المدة. لذا، إن نتيجة النموّ الاقتصادي تصبح سالبة لتعبّر عن انكماش بنسبة 7.5%.

لكن مع افتراض أن يكون استخدام مؤشّر أسعار الاستهلاك هو أفضل ما يمكن تقديمه في هذه الحالة، هناك أمور غير واضحة في هذا المؤشّر أصلاً. يقول فضل الله: «في طريقة احتساب مؤشّر أسعار الاستهلاك، من غير المؤكّد أن هذا الإحصاء يشمل كل نقاط البيع، بل هو يشمل نقاط بيع متركّزة في منطقة بيروت الكبرى، ولذلك قد يكون هناك انحياز في الأرقام».

ويذكر فضل الله مشكلة أخرى تتعلّق «بالتثقيلات المستخدمة في احتساب السلّة الاستهلاكية، وهي قائمة على إحصاءات سنة 2012، إذ تغيّرت الكثير من العوامل التي أثرت على سلوك المستهلك في هذه المدة، خصوصاً بعد أزمة 2019»، وهذا الأمر يطرح تساؤلاً جدياً حول دقّة الأرقام التي يحتسب على أساسها صندوق النقد معدّل النمو الحقيقي للاقتصاد.

نظرياً، تحويل نمو الناتج من اسمي إلى حقيقي، يبدأ عبر قياس حجم السلع والخدمات المنتَجة بلا أي تأثير لتغيّر الأسعار. لهذا نستخدم ما يُسمّى «مُحَوِّلَ الأسعار» أو «مُعَدِّلَ الناتج المحلي الإجمالي»، وهو ما يُعرف بالـ«deflator»، وهو رقم يُعبّر عن معدل التضخّم إجمالاً في عملية إلغاء أثر التضخّم عن النمو في الناتج المحلّي.

بشكل مبسّط، يُطرح أثر التضخّم من النمو الكلي: إذا ارتفعت الأسعار بنسبة معينة، تجب إزالة تلك النسبة من زيادة قيمة الإنتاج كي تبقى الزيادة الحقيقية في الكميات المنتَجة لا أكثر. الناتج الذي نحصل عليه في النهاية هو نمو الناتج الحقيقي، وهو الأقرب لقياس مدى التوسع الفعلي للاقتصاد من دون انعكاس الزيادة في الأسعار.

في الواقع، وبحسب ما يظهر في أرقام صندوق النقد، الارتفاع في الناتج المحلّي الاسمي كلّه كان عبارة عن ارتفاع في الأسعار، إذ إن ارتفاع الأسعار يظهر في الحركة الاقتصادية كأنه نمو في هذه الحركة، في حين أن الزيادة هي عبارة عن ارتفاع الأسعار فقط.

المشكلة هنا، هي أنه مع العلم أن هذا النمو هو عبارة عن تضخّم الأسعار، وهو غير ناتج من إنتاج إضافي في الاقتصاد، يعني أن الاقتصاد اللبناني أصبح بحاجة إلى كمية أكبر من الأموال لإجراء حجم الحركة الاقتصادية نفسها (أو أقل لأن هناك انكماش حقيقي في الناتج بنسبة 7.5% بحسب صندوق النقد).

تستمر المجريات الاقتصادية في البلد في قيادة النقاش إلى مكان واحد. لا يمكن للاقتصاد أن يتعافى من دون القيام بإجراءات حقيقية على أرض الواقع.

لا يمكن أن تظهر الحركة الاقتصادية بشكل فجائي، بل هي تحتاج إلى محرّك يحفّز وجودها، وهذا الأمر يتضمّن التسهيلات القانونية والتمويلية والاستثمارية، كما يتضمّن تأمين جميع عناصر الإنتاج لتأمين نمو مستدام وحقيقي. فيما عدا ذلك، نموّ يأكله التضخّم (وهو أصلاً مصدره التضخّم) أو نمو قد يختفي عن الأوراق فجأة (كما حدث سنة 2019).

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد