علي حيدر (الأخبار)
في مسيرة الأمم، هناك محطات تعبر كغيمة صيف، لا تخلّف سوى أثر عابر، وأخرى تتخطى حدود الزمن لتصبح جزءًا من صرح الذاكرة الوطنية، وركيزة لوعي جمعي وسياسي جديد، ونقطة انعطاف حاسمة في مسار التاريخ، تترك بصمتها على الجغرافيا والعقول لعقود.
كانت حرب تموز/يوليو 2006 من هذا الطراز الثاني؛ لم تكن مواجهة عسكرية عابرة، بل امتحانًا مصيريًا لقدرة شعب ومقاومة على الصمود في وجه آلة عسكرية مدججة، وتحويل الضغوط الهائلة، العسكرية والسياسية، إلى مكاسب إستراتيجية مستدامة.
شكّلت هذه الحرب، إلى جانب محطة التحرير وما سبقها من إنجازات، رصيداً نوعياً عزّز موقع المقاومة في معادلة الدفاع عن لبنان ووجوده ومستقبله، وقوّض المنطق الساعي إلى تجريد البلاد من سلاحها المقاوم خدمةً لمصالح العدو ومشاريع الهيمنة الأميركية.
غير أن الحملات التي استهدفت المقاومة بعد الحرب الأخيرة، كما قبلها، سعت إلى محو هذا النصر من الذاكرة الوطنية، بذريعة أن التحولات اللاحقة أضعفت أثره أو ألغته. وهنا يتجلّى الخلط المنهجي بين «التاريخ» و«الراهن»، إذ لا يجوز قياس إنجازات الماضي بميزان أحداث لاحقة من دون مراعاة سياقاتها المختلفة، ولا الخلط بين الثابت والمتحوّل.
وحقيقة الأمر أن النتائج الإستراتيجية لحرب 2006 لم تُمحَ، بل لا تزال قائمة حتى اليوم. فمظلّة الردع والمعادلات التي أرستها تلك المواجهة مكّنت المقاومة من تطوير قدراتها إلى مستوى جعلها قادرة على النهوض مجدداً بعد الضربات الكاسحة في الحرب الأخيرة، وأسّست لامتلاك مقومات أحبطت سيناريو اجتياح الجنوب اللبناني، ورسّخت موقعها كخط الدفاع الأول عن لبنان في مواجهة حرب تدميرية واسعة.
القراءة الموضوعية لأي حرب تقتضي تقييم نتائجها ضمن سياقها الزمني ومعاييرها الخاصة، لا وفق ظروف طارئة لاحقة.
فالتطورات التي أعقبت عام 2006 لم تمحُ البطولات التي سُطّرت ولا الإنجازات التي تحققت. بل شكّلت تلك الحرب منعطفاً إستراتيجياً في الصراع مع العدو، إذ أعادت رسم معادلات الردع والأمن لسنوات طويلة.
وما يعزّز دلالتها التاريخية أن لجنة «فينوغراد» الإسرائيلية نفسها أقرت بأن إسرائيل بادرت إلى الحرب وفشلت، وأن بضعة آلاف من المقاومين صمدوا أمام ما كان يُوصف بأقوى جيش في المنطقة، ما أسفر عن استقالات مدوّية في صفوف القيادة الإسرائيلية، وأنتج أثراً ردعياً امتد لأكثر من 15 عاماً، ومهّد الطريق لإنجازات لاحقة.
أما الجدل حول تراجع قوة الردع اليوم، فتنبغي مقاربته بفهم أعمق لطبيعة الردع ذاته؛ فهو ليس حالة ثابتة مطلقة، بل عنصر ديناميكي في أي إستراتيجية دفاعية، قد تتبدل حسابات الطرف المردوع في أي لحظة، بفعل تقديرات صحيحة أو خطأ، الأمر الذي يفرض على المقاومة المزج بين الردع والهجوم، مع الحفاظ على جهوزية دفاعية دائمة، ولا سيما في مواجهة عدو كالإسرائيلي.
استحضار انتصار 2006 ليس حنيناً إلى الماضي، بل فعلٌ لحماية السردية الوطنية، وصون إنجازات المقاومة، وتعزيز الثقة بقدرة الأمة على مواجهة التحديات. وهو في الوقت نفسه فرصة لاستخلاص الدروس لتطوير أدوات الدفاع والردع. فإحياء ذلك الانتصار لا يعني إغفال تحديات الحاضر، بل توظيف الرصيد التاريخي للبناء عليه وصياغة إستراتيجيات مواجهة جديدة تتلاءم مع الواقع الراهن.
لقد كانت حرب 2006، بما فرضته من هدوء ردعي طويل، انتصاراً إستراتيجياً حقيقياً، وستبقى كذلك مهما تغيّرت الظروف. والتحدي اليوم هو البناء على تلك الركائز وتكييفها مع بيئة الصراع المستجدة، لأن ذاكرة النصر إذا أُهملت أضعفت الحاضر، أما إذا استُثمرت، فمنحتَه قوة إضافية للمواجهة.
في المحصّلة، الأمم التي تتخلى عن ذاكرتها الحية تسلّم حاضرها لأعدائها قبل أن تورّثه لأبنائها. وحرب 2006، بما أفرزته من معادلات وتوازنات، تشكّل جزءاً من رصيد لا يجوز التفريط به. فالمعارك لا تُقاس فقط بنتائجها الفورية، بل بما ترسّخه من قواعد اشتباك ومعادلات قوة بعيدة المدى.
والفارق شاسع بين من يخوض المعركة المقبلة وهو مسلّح برصيد من الثقة والخبرة، وبين من يواجهها عارياً إلا من حاضر مربك. تلك الذاكرة ليست ماضياً يُستدعى للبكاء عليه أو التغنّي به، بل قوة حيّة، إذا أُحسن استثمارها، غدت جسرًا نحو انتصار جديد.