فراس الشوفي
بدأت ليل أمس، النقاشات في نيويورك حول مهام قوات بعثات حفظ السلام الدولية المتبقّية في العالم. ومن أسخن الملفات التي بين يدي الدول، مهمّة قوات الطوارئ الدولية العاملة في جنوب لبنان (اليونيفل)، على أن يصدر القرار بخصوص البعثة خلال أسبوع.
تختلف نقاشات نيويورك حول "اليونيفيل" هذا العام جذريًا عن النقاشات التي طبعت الـ 47 عامًا الماضية، والتي تشكّل عمر مهمّة القوات الأممية في لبنان، منذ دخولها لمراقبة انسحاب قوات الاحتلال "الإسرائيلي" بعد اجتياح العام 1978 والإشراف على تطبيق القرار 425.
إذ إنّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف تمويل الأمم المتحدة والضغط "الإسرائيلي" - الأميركي غير المسبوق لإنهاء عمل البعثة، والانقسام العمودي داخل مجلس الأمن والتباين داخل المعسكر الفرنسي - الأميركي - البريطاني، بالإضافة إلى سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد ونتائج الحرب "الإسرائيلية" الأخيرة على لبنان والأجواء الداخلية اللبنانية، كلها عناصر تجعل من استمرار مهمّة الـ"يونيفل" بصيغتها الحالية أمرًا شبه مستحيل.
يوم الجمعة الماضي، تولّت فرنسا بصفتها "حاملة القلم" في مجلس الأمن، تسويق مشروع قرار التمديد للقوة الدولية، بداية على الدول الدائمي العضوية، ثمّ على باقي أعضاء المجلس الحاليين لهذه الدورة. لم يبدّل الفرنسيون كثيرًا في الصيغة القديمة للمشروع، إلّا لناحية توضيح حريّة الحركة للـ"يونيفل" لغويًا، في مسعى فرنسي لتخفيف الضغوط الأميركية و"الإسرائيلية"، واستغلال الظروف الحالية لناحية قبول حزب الله بإخلاء منطقة جنوب الليطاني من الأسلحة.
إلّا أنّ هذه "المغريات" الفرنسية - الأوروبية، في ظلّ رغبة الأوروبيين، خصوصًا الفرنسيين والإيطاليين والإسبان والألمان باستمرار وجودهم العسكري في جنوب لبنان، لم تعُد تقنع ""الإسرائيليين"" الذين يبيّتون لردّ الصاع صاعين للـ"يونيفل" بعد رفضها الخروج من الجنوب في أثناء العدوان الأخير، وسعي "إسرائيل" إلى دفع نشاط الأمم المتحدة بعيدًا عن أي من عملياتها العسكرية سواء في فلسطين أو في لبنان. وكذلك لن تغيّر شيئًا في التوجّه الأميركي الحالي لضرب الأمم المتحدة وإضعاف دورها ومؤسساتها واستهداف موظفيها، لا سيّما مع قرار وقف التمويل للمنظمة وأنشطتها، ومن ضمنها مهام الـ"يونيفل" التي يساهم الأميركيون بنحو 27% من موازنتها السنوية.
وبينما كان الموفد الأميركي إلى سورية السفير في أنقرة توم برّاك والدبلوماسية الأميركية مورغان أورتاغوس في بيروت يستمعان إلى الموقف اللبناني المشدّد على دور الـ"يونيفل" في جنوب لبنان أمس، كشفت وسائل إعلام أميركية أنّ وزير الخارجية الأميركي مايك روبيو وافق على خطة لإنهاء عمل هذه القوّة، وأنّ إدارة ترامب تعتبر الانفاق عليها غير ذات جدوى، في مقابل الموقف الأوروبي الذي لا يزال يصرّ على أهميّة وجود الـ"يونيفل" في الجنوب.
وكانت وكالة "أسوشييتد برس" ذكرت في وقت سابق أنّ روبيو وقّع على خطة تهدف إلى تقليص عديد هذه القوّة تمهيدًا لإنهاء وجودها خلال الأشهر الستة المقبلة.
أكثر المتفائلين، يتوقّع أن يتمكّن الفرنسيون والدول الأعضاء الأخرى، من التوافق مع الأميركيين على تمديد المهمّة لعام جديد آخر، لكنّه سيكون العام الأخير. إذ إنّ الولايات المتحدة باستطاعتها التدخّل بشكل أكبر لمنع التمديد بشكل نهائي للقوة الدولية وإنهاء مهمّتها بشكل فوري، إلا أنّ الوصول إلى اتفاق على صيغة التمديد لعام واحد أخير بات الأكثر ترجيحًا، ويتقدّم الاحتمالات الأخرى، لكن طبعًا من دون الدعم المالي الأميركي.
الحديث عن استبدال الدعم الأميركي أو الحصول من الأميركيين على أموال للأمم المتحدة بطريقة مختلفة، يبدو شديد التعقيد. فجزء من الأموال التي جرى اقتطاعها من الموازنة الأميركية وكانت مخصّصة لتمويل الأمم المتحدة، تم وضعها بتصرف ترامب لصرفها في مهام دُولية، وآخر ما سيقوم به ترامب هو مساعدة الـ"يونيفل" التي ترفضها "إسرائيل". فضلًاَ عن أنّ قيام الأوروبيين أو الصينيين بالتعويض عن الدعم المالي الأميركي لمهمّة القوّة، عملية غير بسيطة وترتبط بمساهمات الدول الأعضاء وموازناتها وتحتاج إلى إجراءات إدارية واسعة، ما يجعلها احتمالًا غير ممكن أو شديد التعقيد ويحتاج إلى وقت وتوافق.
هذا يعني، عمليًا، أنّ الـ"يونيفل" لن يكون لديها خيار بعد صدور قرار تجديد المهمّة، والموافقة على مشروع الموازنة المالية الأميركية في الكونغرس الخريف المقبل، إلّا البدء بتخفيض عديد القوّة الحالية من العسكريين والمدنيين، الأجانب واللبنانيين بنسبٍ تتراوح بين 25 و35% في مختلف الوحدات والمهام. وسيشمل الاقتطاع التخلّي عن نسب معيّنة من كلّ التشكيلات العسكرية والكتائب العسكرية الموجودة والمناصب المدنية المخصّصة للأجانب قد تصل إلى 35%، وعدم تعيين موظفين في مناصب شاغرة أو ستشغر قريبًا. بينما من المرجّح أن يتمّ العمل على إنهاء عقود 25% من الموظفين اللبنانيين في البعثة.
هذه التغييرات، تطرح تساؤلات واسعة عن طبيعة المهام التي ستقوم الـ"يونيفل" بتغييرها للتماشي مع تخفيض الموازنة والعديد، وكذلك الأمر بالنسبة إلى السلوك "الإسرائيلي" المتوقّع مستقبلًا ودور الجيش في الجنوب ومصير الملفات التقنية التي كانت تتولّاها هذه القوّة طوال 50 عامًا، لناحية مراقبة الخروقات "الإسرائيلية" والإشراف على التفاهمات الحدودية غير المباشرة.
فالمهمّة الأساسية للـ"يونيفل" هي دعم الجيش اللبناني، تمهيدًا لتولّيه المسؤولية الكاملة، فكيف سيتمكّن الجيش من تخصيص عشرة آلاف جندي إضافي من الآن وحتّى العام المقبل لنشرهم في الجنوب مكان القوّة الدُّولية ومن أين سيأتي بالتمويل اللازم؟
كما أنّ ذلك سيضع الجيش في مواجهة مباشرة وجهًا لوجه مع جيش الاحتلال، من دون أي حضور دُولي، ومن دون الأسلحة المناسبة. أمّا السلوك "الإسرائيلي" المتوقّع، بعيدًا عن تطمينات برّاك التي أثبتت مرات في ملفات لبنان وسورية أنها ساذجة وغير حقيقية، فيمكن استقراؤه من العدوان اليومي المستمر على لبنان جوًّا وبحرًا وبرًّا، والتوسّع في نقطة جديدة في كفر كلا تضاف إلى النقاط الخمس السابقة، ومنطقة عازلة متاخمة لمزارع شبعا أعلن عنها قبل أيام، واستمرار سياسة الاغتيالات والحملات الجوّية في لبنان، وكذلك الأمر في الجنوب السوري، الذي يتعرّض إلى عملية قضم يومية ممنهجة، من سفوح جبل الشيخ الشمالية قرب دمشق إلى حوض اليرموك في جنوب غرب درعا.
وفي ما ينتظر اللبنانيون نتائج زيارة برّاك وأورتاغوس إلى فلسطين المحتلة اليوم، تُظهر كلّ المؤشرات السياسية والعسكرية في "إسرائيل" استمرار الضغط العسكري "الإسرائيلي" على مختلف الجبهات البرّية المحيطة خلال الأعوام المقبلة، في مسعى إلى تشكيل مناطق عازلة تسمح بإبعاد الأخطار نهائيًا عن محيط "إسرائيل".
فضلًا عن السيطرة على جغرافيا إستراتيجية حيوية وغنية بالموارد باستغلال ظروف الفوضى والهشاشة في دول الطوق، واستخدام الخرافات التوراتية التي عبّر عنها رئيس الحكومة "الإسرائيلي" بنيامين نتنياهو بحلم "إسرائيل" الكبرى في مقابلة تلفزيونية قبل أيام. لذا، فإنّ "إسرائيل" الساعية للمناطق العازلة، لن يكون في صالحها بعد اليوم وجود أي قوة عسكرية في لبنان، حتّى ولو كانت للأمم المتحّدة، وقد سبق أن اختصر برّاك الدور المرسوم للجيش اللبناني كـ"قوة حفظ سلام" في وجه التوسّع العدواني ال"إسرائيلي".