أخيراً، استراح المحارب، مهدي حلباوي، من الحِمل الذي أثقل كاهله ولم ينُؤ به يوماً. استشهد مدير العمليات في بيروت في الهيئة الصحية في استهداف مركز الدفاع المدني التابع للهيئة في الباشورة (بيروت) فجر أمس. في موقع أيّ حادثة، حريق أو تفجير أو غيرهما، في الضاحية وبيروت، كان مهدي هناك دائماً. لا تحتاج أكثر من بضع دقائق لتتيقّن أن الإنقاذ لم يكن «مهنة» في حياته. إذ لطالما جمعته علاقة روحية بالضحايا الذين ينكبّ بلهفة عالية لإغاثتهم، وتتملّكه الصدمة عندما ينتشلهم ويتعرّف عليهم، وكأنه مبتدئ يختبر المجزرة الأولى في مسيرته. لا يسمح لقلبه بأن يعتاد على مشاهد الإجرام ولا لمشاعره بأن تتبلّد، من غير أن يمنعه كل ذلك من تأدية مهامه على قدر عالٍ من الشجاعة.بعد يومين على مجزرة القائم في 20 أيلول الماضي، وفيما كان عناصر الإنقاذ يأخذون قسطاً من الراحة، كان مهدي يتّكئ على سيارة الإسعاف يهدّئ من روع أهالي المفقودين. لم يترك مهمة إدارة الجثث والربط بين الأهالي والمستشفيات لغيره، لذلك كل من يسأل عن أيّ تفصيل يُحال إلى «الجوكر»، كما لقبه مدير العمليات المركزي في الدفاع المدني جهاد فرحات، «لأنه كيفما رميته يأتي واقفاً».
بدأ مهدي عمله مسعفاً متطوعاً عام 2006، قبل أن يبلغ عقده الثاني. يصعب على فرحات تعداد صفات مهدي، «ليس لأنه شهيد نراه ملاكاً، لكنه فعلاً كانت لديه قدرة عالية على التركيز والصبر والاندفاع، كما كان ذكياً في إدارة العمليات، يتعامل مع أيّ خطأ على أنه يزهق روحاً». تدرّج من عنصر متطوع إلى رئيس فرقة، فمدير مركز، حتى صار مدير العمليات في منطقة بيروت «يشرف على ستة مراكز مالياً وإدارياً، وعلى نحو 100 موظف متفرغ ومتعاقد وبين 500 و1000 متطوع ومتطوعة، كما أوكلت إليه مهام تدريب المتطوعات، وكان مهيّأً لتسلّم مسؤولية الدفاع المدني في منطقة بيروت».
لم يقبل الشاب الثلاثيني باستراحة المحارب. عندما كانت الحرب منحصرة في الجنوب، لطالما تذمّر من مكوثه في بيروت: «شو عم نعمل هون نحن». في 27 الشهر الماضي، شارك في انتشال جثمان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصر الله بعد 6 ساعات على القصف، متجاهلاً وزملاءه التوصيات بعدم الدخول إلى الأنفاق خلال خمسة أيام من قصفها تفادياً لخطورة الغازات المنتشرة. بعد إخلاء مراكز الضاحية الجنوبية، وحرصاً على رفع معنويات العناصر، تنقّل مهدي بين المراكز، ووصل إلى مركز الباشورة عند السادسة، عصر أول من أمس، حيث قضى ليلته الأخيرة. ابن بلدة النبي شيت كان يعيد الفضل في أيّ نجاح أو مديح إلى ما ورثه عن والده الشهيد عدنان حلباوي، الذي قضى في المعارك مع العدوّ في منتصف الثمانينيات، معرّفاً عن نفسه «أنا ابن الشهيد»، قبل أن يصبح شهيداً ابن شهيد.