من المعيصرة في جبيل إلى ديربلا في البترون إلى أيطو في زغرتا، وقبلها الكولا وبرجا وصيدا وكل لبنان، الجريمة نفسها والمجرم نفسه والهدف واحد: قتل المدنيين وشيطنة النازحين سعياً وراء خلق بيئة معادية لهم ومحاولة ضعضعة الوحدة الوطنية والسلم الأهلي. قد لا يختلف اثنان على أن العدو الإسرائيلي يعوّل على الحرب الداخلية لتحقيق أهدافه أكثر مما يعوّل على قدرته على تحقيق انتصار على حزب الله أو حتى تأليب بيئته عليه. ولعله لم يتعلّم هنا من دروس تموز 2006 ولا الهزائم التي سبقتها، فيبادر في كل مرة إلى تكبير الأوهام والأهداف ثم التراجع عنها. لكن يصدف أنه يجد في كل مرة بيئة سياسية وإعلامية لبنانية حاضنة لأوهامه وأكاذيبه تعمل عن قصد أو غير قصد على ترداد سرديته من دون احتساب أضرارها على المجتمع ككل إذا ما أردنا افتراض حسن النية. ويبدو أن هؤلاء أيضاً يراهنون مجدداً على مكرمات الخارج على طريقة رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة الذي قدّم ورقة استسلام لبنان للسفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان والعدو خلال حرب تموز 2006. يومها ظنّ السنيورة وحلفاؤه، أو بالأحرى أفهمتهم وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كوندوليسا رايس، أنه يمكن لهم أن يديروا دفة الحكم في لبنان إذا تآمروا على فئة من اللبنانيين. فذهب النائب مروان حمادة إلى حدّ إخبار فيلتمان بمكان وجود الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله طالباً منه نقله إلى الإسرائيليين لقتله وفق ما كتب السفير الأميركي السابق في إحدى الوثائق. ونقل في وثيقة أخرى طلب سياسيين من فريق 14 آذار بينهم الرئيس الأسبق أمين الجميّل ونجله الراحل وزير الصناعة بيار الجميّل ودوري شمعون وكارلوس إده وفارس سعيد وجورج عدوان ونايلة معوض ونسيب لحود وبطرس حرب إطالة أمد القصف الإسرائيلي لأسبوع أو اثنين، لتدفن أحلامهم في النهاية مع اندحار العدو الإسرائيلي. وها هم هؤلاء أنفسهم، أو ورثتهم، يعاودون الكرّة مجدداً من باب شيطنة النازحين وعزل بيئة الحزب هذه المرة. فما إن يقصف العدو المدنيين العزّل والنساء والأطفال حتى تسارع الجوقة إياها إلى التسويق لسردية وجود مخازن أسلحة تحت المنازل ومنصات صواريخ أو اختباء مقاتلين ومسؤولين حزبيين داخل الشقق.
أول من أمس، تهافت البعض لتبرير مجزرة العدو الإسرائيلي في بلدة أيطو الزغرتاوية حيث استشهد أكثر من 22 نازحاً بقصف استهدف أحد المباني، عبر تكرار سردية العدو باختباء مقاتلين بين المدنيين، في حين كان الضحايا نساء وأطفالاً. أول هؤلاء كان نائب المنطقة ميشال معوض الذي تنقّل من شاشة إلى أخرى مبتهجاً ومؤكداً أن المستهدف بالغارة ليس أيطو بل «عنصر حزبي من حزب الله مع عائلته» من دون ذكر اسمه أو أي تفاصيل أخرى سوى أنه جاء بروايته هذه من «الأجهزة الأمنية» محذراً من تسلل العناصر الحزبيين. فيما رأى زميله في القضاء النائب ميشال الدويهي أن الوقت حان لتنظيم موضوع النزوح للتأكد من عدم وجود مسلحين أو مسؤولين أمنيين ووقف الإيجارات العشوائية والتحقق من كل اسم. أما النائب القواتي عن البترون غياث يزبك فنصح مالكي المنازل بعدم استقبال أي شخص أو مجموعة لها دور أمني من دون أن يشرح لهم ما هو تعريف مصطلح «أمني». وانضم النائب الكتائبي الياس حنكش إلى الفرقة ليطالب قيادة الجيش والقوى الأمنية والمحافظين والبلديات والمخاتير والأهالي والسكان بمراقبة حركة النزوح والاطّلاع على أسماء الموجودين في مراكز الإيواء والمستأجرين كي لا يكون بينهم عسكريون أو أمنيون. والواضح أن الجوقة إياها تتأهب عند كل عدوان لتبرير حصوله واستهداف العائلات والتحريض على مناطق أخرى. فقبيل ذلك، كان فارس سعيد يحرّض على كسروان وجبيل ملمّحاً إلى تخزين أسلحة في مناطقها، وإلى وجود معدات عسكرية في برجا والمعيصرة وديربلا وهي المناطق التي نفّذ فيها العدو مجازر بالمدنيين. في الإطار نفسه، نشرت الوزيرة السابقة مي شدياق مقطع فيديو لقصف المعيصرة سائلة ما المغزى من تخزين الصواريخ والمتفجرات في هذه البلدة الكسروانية ولماذا باتت تحت سيطرة حزب الله وتحولت الى مخزن للأسلحة.
«استنسابية» دولة القانون
هكذا، ارتأى هؤلاء وما يمثّلونه من أحزاب وخط سياسي أن قتل العائلات المؤيدة لحزب معيّن مبرر، مانحين الإسرائيلي حجة للمضي قدماً في جرائمه، من دون أن يردعهم لا قضاء ولا وزارة عدل باستدعائهم لسؤالهم على الأقل عن المعلومات التي يستندون إليها لنشر تلك الأكاذيب. فالتحريض على قتل المدنيين المعارضين لخطهم السياسي والمنتمين إلى بيئة حزب الله لا يدخل قطعاً ضمن نطاق حرية الرأي التي يتبجّحون بها بل جرم يعاقب عليه القانون كونه دعوة للتطهير وفقاً للانتماء السياسي. ولا ضير هنا من تلاوة المادة 295 من قانون العقوبات اللبناني على من يصرخون ليلَ نهارَ بضرورة قيام دولة القانون: «من قام في لبنان في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعوات ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت». وتنادي المادة 296 من القانون نفسه بفرض عقوبة «بالحبس 3 أشهر على الأقل على كل من نقل أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها ومن شأنها أن توهن نفسية الأمة». لكن من يعاقب المخالفين في هذه الحالة؟
ميشال معوض برّر للعدو مجزرة بلدة أيطو بأنها استهدفت «عنصراً حزبياً»
يقول أستاذ العلاقات الدولية والعميد السابق لكلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية كميل حبيب إن القانون الدولي الإنساني «يحرّم استهداف المدنيين ويضعه في خانة جريمة الحرب، كما يحرّم استخدام السلاح ضد المستشفيات ودور العبادة وسيارات الإسعاف والأطباء والأفراد والأماكن التراثية»، فضلاً عن أن «القانون الدولي قائم على قاعدتين: التناسبية بين المدني والعسكري، وإسرائيل لا تميّز بينهما؛ والتناسبية في استخدام السلاح أي استعمال سلاح يتناسب مع سلاح الخصم ولا يكون محرماً دولياً. وفي الحالتين نتنياهو المدان بارتكاب جريمة حرب في المحكمة الجنائية الدولية يخرق القانون»، فكيف يمكن لبعض السياسيين اللبنانيين التناسب بالمواقف مع مجرم حرب أو التبرير له قتل الأبرياء من دون أي دليل حسّي ومن دون أن يكون الضحايا مشاركين مباشرة في أعمال «عدائية»؟