جاء طوفان الأقصى ليقدّم للعالم مشهدًا جديدًا لم تكتشفه الانتربولوجيا الحديثة، ولم تألفه الحضارات المادية. وحدة الساحات لم تكن فقط على مستوى شحذ السيوف وتذخير البنادق، بل في بُعدها الانتربولوجي قدّمت فلسفةً قلّ نظيرها في حقوق الإنسان وكرامته ورسالته قبل موته وبعده.
ينتقل مع البشر نوعان من التراث. أحدهما التراث اللامادي أو المعنوي وهو يعني مجموع اعتقادات وعادات يتوارثها المجتمع وتنسجم مع معتقداته وأفكاره. مسألة الموت وما بعد الموت والطقوس المتعلقة به من أهم المتوارثات التي شغلت المجتمعات طوال التاريخ؛ لأنّ الموت مما لا شكّ فيه أمر حتمي على كل إنسان وإنّ النظرة إليه مهمّة وأساسية وتطورت مع الحقبات التاريخية.كذلك مسألة الجسد باعتباره وعاء الروح وله حيثيته بل له قداسته في بعض الاعتقادات.
وصلنا اليوم مع تطور العلوم الاجتماعية وخاصة الانتربولوجيا إلى نوع جديد هو انتربولوجيا الجسد الذي يعالج مسائل تظهر على الإنسان مثل الحزن والضحك واللباس والموضة وصولًا إلى كشف الجسد بعد أن كان الأساس هو الستر، وصولًا إلى مسألة التحوّل إما بسبب مشاكل هرمونية أو مرضية نفسية. هذا كله يتناول جسد الحي، أما جسد الميت والجثة بتعبير دقيق فهو كلام آخر ويستدعي البحث به تدبّر إضافي إذ تطرح أسئلة عن جدوى وغاية الاهتمام بالجسد للميت وما يفيد ذلك الميت أو غيره، ولماذا بعض المجتمعات تعاملت مع الجسد بأساليب مختلفة من حرق إلى دفن ثم لماذا بعض الطقوس كانت أساسية مثل الغسل والتكفين عند المسلمين، وصولًا إلى طقوس استثنائية رأيناها مع طوفانٍ استثنائي.
حوّل علماء الانتربولوجيا ظاهرة الموت وما يرافقه من طقوس من ظاهرة جسدية إلى ظاهرة اجتماعية، وأصبحت فرعًا من فروع علم الاجتماع الحديث. يرى عالِم الاجتماع الفرنسي "فان جينيب" في كتابه طقوس العبور، أن شعائر وطقوس الموت تعد بمثابة شعائر انتقال. أما شعائر الموت عند "مالينوفسكي" فهي تعبيرات جمعية عن الشعور الملائم لذلك الموقف يظهر خلالها الأفراد التزاماتهم تجاه بعضهم بعضًا وتجاه المجتمع. أما "دوركايم" فقد درس العديد من الطقوس الجنائزية للسكان الأصليين وأشار إلى أنه عندما يفجع الموت إحدى الجماعات، فإنها تشعر بالخسارة ومن ثم تبحث عن بعضها بعضًا حتى يتجمعوا ويجددوا مشاعر التماسك بينهم لإعادة تكوين أنفسهم رمزيًا وعمليًا.
إذًا الطقوس والشعائر عند الانتربولوجيين ليست عبثية؛ بل لها صلة عميقة بالمجتمع فهي تعمل على إعادة التوازن. ونلاحظ أن مثل تلك الطقوس خاصة التي ترافق الموت والحزن تنطوي على فوائد كثيرة اجتماعية مثل التماسك والتكاتف والتواصل. كذلك فوائد معنوية وروحية وعبادية فضلًا عن التخفيف عن أهل الميت. كل هذا تلاحظه الانتربولوجيا من خلال دراسة الطقوس التي تعكس ثقافة المجتمع.
تعدّ ممارسة طقوس معينة أحد أهم الأوجه والمظاهر التي تعبر عن ثقافة مجتمع معين وعن طبيعته وأفكاره. فهي لا تأتي من فراغ، وإنما هي نابعة من معتقدٍ ومن متوارثٍ مادي وغير مادي. الطقوس التي تتعلق بالميت هي في صميم انتربولوجيا دراسة المجتمعات. إذ إنها السلوكيات والممارسات التي تعبر عن المشاعر القوية والاجراءات التي تُنفّذ من أجل قيمة رمزية في المجتمع في ضوء التقاليد والعادات والمعتقدات.
إذا رجعنا لاستعراض بعض الديانات القديمة سوف نجد اختلافًا في التعامل مع جسد الميت، فالديانة الزرداشتية على سبيل المثال، وهي ديانة توحيدية ولكنها كانت تؤمن بوجود الشر، وبالتالي لا بد من تطهير الجسد لتعود الروح مطهرة إلى النعيم، ولذلك كانوا يضعون أجسام الموتى على أبراج عالية مكشوفة للشمس لكي تأكلها الطيور الجارحة ولا يبقى إلا العظام فيرمونها في البئر.
أما اليونان والرومان فكانوا يحرقون موتاهم واستمرّت تلك العادة حتى ظهور المسيحية فصاروا يدفنون الموتى بدل حرقهم. وكانوا قديمًا يجتمعون حول الميت ويأتي أحد أقاربه بشعلة فيحرقه. أما السيخ والهندوس فإضافة إلى الحرق كانوا يرمون روث الأبقار على جسد الميت اعتقادًا ببركتها ثم بعد الحرق يأخذون رماد الجسد وينثرونه في نهر الغانج.
في الحضارة المصرية الفرعونية كان الاهتمام كبيرًا بجسد الميت؛ فقد كان الدفن يمر بمراحل مثل النواحة في بيت الميت ثم التحنيط ثم حمله إلى نهر النيل مع أمتعته والعبور به بقارب إلى طرف آخر حيث المقبرة المخصصة للموتى. هذا بالنسبة إلى الموتى العاديين أما الملوك والآلهة فكانت لهم طقوسهم الخاصة.
إذًا تتعامل الشعوب المختلفة مع جسد الميت كلٌّ بحسب اعتقاده بالموت وما بعد الموت. والطقوس المتنوعة بحسب كل دين أو مجتمع تعبّر عن تلك الفكرة وذلك الاعتقاد. وتاليًا كلما ارتبطت الفكرة بالسماء واعتقاد خروج الروح إلى خالقها زاد احترام الجسد والتعامل معه. لذلك فرضت الأديان السماوية مجموعة تشريعات تتعلّق بالتعامل مع جسد الميت، ويعتقد المؤمنون أنها تخفّف عن الميت في قبره وفي العالم الآخر الذي يؤمنون بانتقال الميت إليه. وخاصة الدين الإسلامي الذي أولى أهمية كبرى للجسد فجعل تشريعات واجبة لا يمكن تركها.
يُجهَّز الميت وهذا الطقس يعني بشكل خاص الغسل والتكفين. ويحرص أهل المتوفي على القيام بها بسرعة؛ لأن "إكرام الميت دفنه" كما يُعبّر في المجتمع. إذًا هو بالدرجة الأولى تكريم للميت. وخلال هذه المرحلة تبرز مشاعر التكاتف والمواساة بين الناس ما يزيد التماسك الاجتماعي. أما عملية الغسل فتجري مباشرة بعد أن تنتقل الجثة إلى المغسل، ويقوم المغسل أو المغسلة بالتغسيل حسب جنس المتوفى. أما الشّهيد الذي يُقتل في سبيل الله فله خصوصية كبيرة حيث لا يتوجب تغسيله ولا تكفينه وفي هذا إشارة إلى الطهارة المعنوية التي يصل إليها الشهيد. وتختلف طقوس الموت مع غياب الجثة كما يختلف شكل الموت، ويصبح أصعب وأقسى. كذلك لو كانت الجثة مشظّية إلى أشلاء.
منذ سنة 1984، بدأت آلة القتل والتدمير الصهيونية تمارس توحّشها في فلسطين والمنطقة ولم تتوقف حتى الساعة. أصبح الموت يمثل مكانة خاصة في حياة الفلسطيني داخل فلسطين وفي الشتات. أولًا لأنهم يؤمنون بالحياة الثانية الأبدية، وثانيًا لأن الشهادة لها مكانة عظيمة في التراث الديني. وإضافة إلى ذلك كانت العلاقة بالأرض متجذرة، ولاحظنا في الحرب الدائرة اليوم إصرار أصحاب الأرض على البقاء والموت فيها. إذًا علاقة الإنسان بالأرض تعطي بُعدًا جديدًا للموت، خصوصية الموت فوق تراب الأرض وكأن أهلها بذورٌ يجب أن تدفن هناك لكي تنمو وتزهر من جديد. لذلك كانت الجنائز غالبًا لا تقتصر على الدفن، بل أصبحت مع الوقت تحمل بعدًا أو وظيفة جديدة تحدّث عنها "فان جينيب" وهي إعادة تأكيد المعتقدات والثقافة. الموت في الأرض المحتلة يعني تأكيد الصلة بالأرض.. الدفن لم يعد مجرد مواراة الجسد.. هو إعادة غرسه في التراب لتأكيد الهوية.
خلقت آلة القتل الصهيونية اليومية حالًا دائمةً من الاستعداد للموت.. استعداد مادي (تجهيز كفن – وصية..) رأينا وصية تلك الطفلة التي أوصت بثيابها وألعابها إلى قريباتها، واستعداد روحي (دعاء صلاة..). الصبر سلوك وقيمة اجتماعية ثابتة أصبح خاصية نوعية في المجتمع الفلسطيني.. ضبط النفس والتبسّم أحيانًا أو الانفعال ولكن في ثورة على الظالم والقاتل. التفاخر والتباهي بالشهيد سمةٌ تقلب حسرة الفقد وانكسار القلب إلى تعزيزات روحية لا يمنع وصولها أي حصار.. أصبحت طقوس الموت ترتبط بمفاهيم الثبات والصمود.. تشير دائمًا إلى الاتجاه.. نحو القدس. نحو تحطيم القيود. نحو العبور. تقديس الموت يُفقد العدو وسيلته الوحيدة لمحاولة إخضاع شعب. واستمرت تلك المفاهيم وتبلورت في كل تاريخ الصراع لتحمل بعدًا تاريخيًا وقيميًا ودينيًا وحضاريًا ووطنيًا.. وجاء الطوفان.
مع الطوفان برزت الطقوس الفريدة، والمستويات التي لا حد لها من التماسك. مع عشرات آلاف الشهداء بزرت طقوس من نوع آخر. الطقس الأبرز هو التحدّث بلسان حال الشهيد لحظة وصول الخبر.. إعلان الموقف المتعدد الأبعاد.. الموقف الوطني في التعلّق بالأرض. الموقف العَقْدي في التسليم لأمر السماء. الموقف السياسي والفكري في تجديد التبنّي لمشروع المقاومة.. والموقف الروحي في إعلان الاستعداد للالتحاق بالركب المقدّس..!!!! هنا التمسك بالطقوس برز واضحًا. نتذكر في الهدنة عندما كانوا يطلبون الأكفان التي نفدت بسبب الحصار. أصروا على تكفين الأجساد أو ما بقي منها ولو ارتجلوا أكفانًا من غير القماش الأبيض. كل تلك المشاهد رأيناها منذ بداية الحرب.. تصريح الأبناء بأن الشهيد يريدنا أن نكمل الطريق.. الصحافي الذي يفقد كل عائلته تباعًا ويخرج صوته مصحوبًا ببحّة قلبه "معليش"، أو حين يمسك يد ابنه المراسل ويتمتم له برسالة بليغة هي آخر رسائل الأبوّة والوداع.. الأم تحضن طفلها المكفّن كما احتضنته لحظة لفّوه بالقماط، والأب يقبّل فلذة كبده المسافر على عجل إلى عالم السلام.. البلاغة الفطرية للأطفال في صياغة جملٍ على دفاتر التاريخ، ذلك الطفل الذي يلقّن الشهادة لأخيه في لحظة الاحتضار طقسٌ من طقوس الموت المدهشة، الصبر الخارق للعادة في وجدان المجتمع، وغير ذلك طوفانٌ من الأمثلة عن الصبر والصمود الأسطوري واستقبال الموت وتوديع الأحبة.. بنظر هؤلاء الدنيا ليست المحطة الأخيرة.. والركام مهما علا لا يمنع الأرواح من العروج.. حتى لو تشظّى كل الجسد ولم يبق منه سوى الرماد.. يرفعون ذلك الرماد نحو السماء.. إلى حيث ينتمي المستضعفون في الأرض..
طقوس الموت فريدةٌ في بلادنا.. كم هي نابضة بالحياة!!