محمود منير/ العربي الجديد
جولةٌ جديدة من معركة طويلة لم تنتهِ بين اليمين المحافظ الأميركي وبين خصومه الليبراليين، مكانها فلوريدا حيث أبطَل القاضي الفيدرالي كارلوس ميندوزا قبل أيام أجزاء كبيرة من قرارٍ أصدره حاكم الولاية يقضي بسحب مئات العناوين من المكتبات والمدارس مع انطلاق العام الدراسي.
الولاية التي يحكمها الجمهوريون، شهدت أعلى معدل حظر للكتب على مستوى الولايات المتحدة هذا العام مسجّلة 4561 حالة من حظر العناوين هذا العام، وتستهدف المؤلّفات التي تُعتبر "إباحية أو تحتوي على مقاطع جنسية صريحة غير مناسبة للقاصرين"، بحسب تقارير إعلامية.
لكنّ سجلات المحكمة تشير إلى أن المصادرة اشتملت العديد من الروايات، مثل: "اللون الأرجواني" لأليس ووكر، و"العين الأشدّ زرقة" لتوني موريسون، و"قصة الخادمة" لمارغريت أتوود، و"المسلخ رقم 5" لكورت فونيغوت الابن وغيرها، وكان القاضي ميندوزا بيّن في قرار حكمه أنّ "بعض الكتب تُحظر بسبب جملة واحدة دون مراعاة سياق العمل بأكمله".
لا ينفصل قرار القاضي عن حالة الاستقطاب السياسية التي تعيشها البلاد، غير أنها تعدّ "مرافعة" قوية عن حريات الأدب والثقافة، حين يقول "يستخدم المؤلفون في كثير من الأحيان أساليب أدبية كالرمزية والاستعارات لإيصال رسائل أو مواضيع أو تمهيدًا للوصول إلى حبكة العمل، وليس من الواضح كيف تتوقع الدولة من أخصائيي الإعلام التعليمي، أو المعلمين، أو غيرهم من مسؤولي المدارس، أن يعرفوا بالضبط ما يتجاوز الحدود في نظر الدولة"، مشيرًا إلى أنّ غموض الأحكام لا ينبغي يؤدي إلى توسيع نطاق تنفيذها.
تحالفات ضدّ المنع
إجراءات الحظر المتزايدة في الولاية، دفعت كبريات دور النشر العالمية، ومنها: بنغوين راندوم هاوس، وسيمون آند شوستر، وهاربر كولينز للنشر، وماكميلان للنشر، ومجموعة هاشيت للكتب وغيرها، بالإضافة إلى مؤلّفي الكتب الأكثر مبيعًا، وأولياء أمور إلى رفع دعوى قضائية فيدرالية العام الماضي مستندين إلى نقاط مشروع القانون رقم 1069 الذي يتوسع باستخدامه مسوؤلو الولاية وهو غير دستوري.
بعض الكتب تُحظر بسبب جملة واحدة دون مراعاة سياق العمل بأكمله
في سياق موازٍ، أرسلت إدارة ترامب في 12 الشهر الجاري، رسالة إلى أمين مؤسّسة سميثسونيان، أكبر مجمع متاحف في الولايات المتحدة، مفادها أنه سيجري تدقيق جميع محتوياته والمحتوى الذي يجري إعداده أيضًا، خلال مدة لا تتجاوز شهرين، وعلى إدارة المتحف إرسال جميع المواد التي تضمّ نصوص المعارض والإرشادات الجدارية في صالات المتحف ومواقعه الإلكترونية للنظر فيها، اعتمادًا على أمر تنفيذي أصدره البيت الأبيض في مارس/آذار الماضي، على خلفية الاعتراض على لوحة تذكارية توثّق محاولتَي عزل ترامب في فترة سابقة، والتي أعيد عرضها لكن بعد حذف بعض التفاصيل حول دور خطاب ترامب في 6 يناير/ كانون الثاني 2021 في التحريض على أعمال الشغب التي أعقبت ذلك في مبنى الكابيتول.
المؤسسة التي خضعت لضغوطات الإدارة الأميركية خلال الأشهر الماضي، وبدأت فعلًا بتطبيق مراجعاتها على المواد المعروضة، يتعين عليها تسليم تقريرها عن محتويات ثمانية متاحف تابعة له، وهي: المتحف الوطني للتاريخ الأميركي، والمتحف الوطني للتاريخ الطبيعي، والمتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأميركية الأفريقية، والمتحف الوطني للهنود الأميركيين، والمتحف الوطني للطيران والفضاء، ومتحف سميثسونيان للفنون الأميركية، ومعرض الصورة الوطني، ومتحف هيرشهورن وحديقة النحت.
على الرغم من تصاعد حدّة الانتقادات من مؤرخين وكتّاب وصحافيين ومؤسسات وحقوقية لتهديدات البيت الأبيض بتقويض الاستقلال العلمي لأكبر مجمع متحفي أميركي، والتدخّل أيضًا في إعادة كتابة التاريخ، إلّا أن مؤسسة سميثسونيان مطالبةٌ بتقديم قوائم بالشراكات مع المتعاونين الخارجيين بعد ثلاثين يومًا لتنتهي من تقديم محتوياتها خلال نحو أربعة أشهر، بما في ذلك قوائم الفنانين والمؤرخين والمنظمات، ونسخ من طلبات المنح واتفاقيات التمويل المتعلقة بالمعارض السابقة أو الحالية، وقوائم بالفنانين المعروضين في قاعات المتاحف والحاصلين على منحة المؤسسة، بالإضافة إلى استطلاعات رأي بنتائجها.
احتفاليّة منقوصة
تحدث كلّ هذه الاختراقات مع اقتراب الاحتفال بمرور 250 سنة على استقلال الولايات المتحدة الأميركية، الذي يحلّ في 4 يوليو/ تموز 2026، وتتجسد المفارقة بمطالبات فريق الرئيس الأميركي أن تسلّم سميثسونيان خطط المعارض، ومسودات المفاهيم، ومسودات الفعاليات المتعلقة والأعمال الفنية المفترض عرضها في احتفالية الاستقلال.
انتقادات لتقويض الاستقلال العلمي لأكبر مجمع متحفي أميركي
في مقال بعنوان "ثورة ترامب الثقافية بدأت للتو" في صحيفة نيويورك تايمز بداية الشهر الجاري، يرى الكاتب ديفيد فايرستون أن الإدارة الحالية تسعى إلى "فرض صورة جديدة لأميركا خالية من العيوب والسجالات الداخلية"، ما يسمح بتفوق "التاريخ الترامبي" على دقة الدراسات الأكاديمية.
أما الكاتب إد سيمون، فذهب إلى أبعد من ذلك في مقاله على مجلة Hyperallergic الإلكترونية، في يونيو/ حزيران الماضي، حين قارن بين "ثورة ترامب" والثورة الثقافية التي قام بها ماو في الصين بين عامَي 1962-1976، وكذلك ما فعلته الثورة الإيرانية عام 1979، من تطهير للمؤسّسات الأكاديمية والثقافية، وتثبيت رواية واحدة للدولة.
مع الفارق هنا، أن ترامب يهدف إلى إعادة هيكلة جذرية لجميع عناصر الحياة الثقافية الأميركية، من التعليم العالي إلى الفن والإعلام، عبر مراقبة الحريات الفردية على حساب الرعاية الاجتماعية (التي حظيت باهتمام ماو ودول اشتراكية مثلًا)، مع تواصل انتهاكات الإدارة الأميركية لحقوق المرأة، وحقوق العمال، وحرية التعبير، ووصفهم بأنهم "معادون لأميركا".
سجِلُّ انتهاكات لا يتوقف، بدءًا من حلّ ترامب لمجلس إدارة مركز كينيدي للفنون الأدائية وتنصيب نفسه رئيسًا له، وتهديده بحجب التمويل عن المؤسّسات الفنية، وتوقيعه أمرًا تنفيذيًا يلغي التمويل الفيدرالي لكلٍّ من هيئة البث العام والإذاعة الوطنية العامة، وإقالته في مايو/ أيار الماضي أمينة مكتبة الكونغرس كارلا هايدن، لأنها وضعت "كتبًا غير مناسبة للأطفال في المكتبة"، وتضمّنت أحدث ميزانية مقترحة صدرت منذ نحو شهرين إلغاء كلٍّ من الصندوق الوطني للعلوم الإنسانية والصندوق الوطني للفنون.
في خطابات ترامب خلال حملته الانتخابية، وبعد توليه السلطة، يتهم المؤسّسات الثقافية الأميركية بتبنيها أيديولوجيا تبعث على انقسام المجتمع، ما يستدعي "تطهير" هذه المؤسّسات، على حدّ قوله، من أي محتوى يخالف محدّدات إدارته وتصوّراتها لـ"أميركا"، التي لا تبدو مهدّدة إلّا من المهاجرين والنساء وفئات مهمّشة عديدة وأهل الثقافة بمؤسساتهم التي ناضلت من أجل استقلاليتها نسبيًا عن الدعاية الرسمية.