في كلّ مقالة يكتبها حازم صاغية، بل في كلّ كلمة، يواصل لعبته الوحيدة، اللعبة الأسهل والأسوأ التي يمكن أن يلعبها مثقف: إدانة الأفكار والأذهان أو بالعكس مدحها. والغاية - وعى ذلك أم لم يَعِه- هي غاية الـ MBC ذاتها. في مقالته ليوم 20/10/ 2024، في جريدة «الشرق الأوسط» بعنوان «حين تكون الهزائم ولا تكون! »، يرى صاغية أنّ مشكلة عرب اليوم -في «تواطؤ ثقافيّ شامل وبالغ الإضرار»، لا ينجو منه سواه بعبقريته الفريدة- هي أنهم لا يقرّون بالهزيمة. يخدعهم «صاروخ هبط على تلّ أبيب أو التحام مباشر أسقط قتلى إسرائيليّين». وهو إذ يعترف أنَّ هذا الخداع «قد يفيد في إبطاء تقدّم الغزاة، أو في رفع كلفة هذا التقدّم»، لكنّه واثقٌ من أنّه «لا يغيّر وجهةً عامّةً تزدحم براهينها المؤلمة».
هكذا يضع صاغية معايير للهزيمة ويُقرّر، بخلاف أغبياء العرب - أي جميعنا تقريبًا ما عداه وحفنة من أشباهه- «أنّ قوى الحرب، في غزّة ولبنان، مُنيت بهزيمة». هزيمة يجب أن نقرّ بها لأنّ هذا الإقرار يفيد في وقفها «عند الحدّ الذي بلغته»؛ أي يدرأ «خطر احتلال الأرض، أكان في لبنان أم في غزّة»، وينقذ «البشر الذين يدفعون أكلاف هذا الكتمان إطالةً لمعاناتهم موتًا وتجويعًا وتهجيرًا وإفقارًا وذلًا».
كان سبق لصاغية أن نصح رفاقه بين الثوّار في سوريا أن يعطوا الجولان لـــ"إسرائيل" من دون تلعثم إذا كان ذلك ينصر الثورة ويجلب التدخّل، أي تدخّل؛ وهو، برأيه، ينصرها ويجلبه، وإلّا لما قال ما قال: «مسؤوليّة السوريّين اليوم هي إغراء العالم بالتدخّل، أيّ تدخّل كان، لوقف العفن وتماديه. فلا تكفي النيّات ولا ما قد يُقال في الغرف المقفلة، بينما المطلوب كسر هذا الانسداد الجهنّميّ القاتل. وإذا كان العنصر المتعلّق بالجولان وكيفيّة استعادته واحدًا من الأسباب التي تُضعف إغراء العالم، وجب على الثورة أن يكون لها قولها الصريح والواضح والمطمئن في أمر استعادة الجولان وطيّ صفحة الحروب» (الحياة، 29 أيلول/ سبتمبر 2012).
يكاد الرجل أن يكون أكرم على "إسرائيل" من نفسها. يكاد أن يكون وكيلها في كل عرس.
في عودة إلى بداية المقال، نجد صاغية يصحّح للغلاة والمتطرفين الأغرار من أصحابه، فيرى أنّه «ليس صحيحًا ما يقوله مولعون بالتعميم حين يقرّرون أنّ «العرب لا يعترفون بالهزائم حين ينهزمون». وبالربط بين البداية وما لحقها، يمكن للقارئ أن يستنتج أنّ اعتراف العرب قبل اليوم بالهزائم هو ما حفظ ما بين أيديهم، وإلّا لكان «جيش متوحّش لا يرحم وليس هناك من يردعه» أكمل مسيرته الظافرة التي لن يحول دونها ولن يقنعه بإيقافها سوى كلام، أفكار، ذهن، ذهن يقول له لقد هزمنا.
يا للعبقرية! يا للدهاء، يا رجل! سبق للسادات أن قالها وكان منتصرًا لا منهزمًا، وانظر أين نحن.
كي يلعب صاغية لعبته الوحيدة التي يتقنها - تقريع الأفكار أو مدحها حفاظًا على واقع قائم أو إخفاءً لحقيقته- يحتاج إلى آلية ضرورية لاشتغال اللعبة. هذه الآلية هي «مغالطة خيال المآتة» الشهيرة البائسة التي يتلاعب صاغية من خلالها بجمهوره المسكين. وتتلخّص عنده باختراع خصمه الفكري على هواه، وليس كما هو، أو بالأصح كما هم بالجمع، في الواقع.
خصم حازم صاغية الذي يتخذه دريئة بعد أن يخترعه، أو بعد أن يجد في الواقع هذا المثال التّعس أو ذاك من أمثلته، ليس في الحقيقة سوى خيال مآته ضعيف يسهل على صاغية أن يرديه ويصرعه. فهو شخص عنيد، غبي، متحجّر، خارج العصر، لا يعترف بالهزائم، أيديولوجي يؤمن بواحدة من الأيديولوجيات العديدة ذاتها التي سبق لصاغية أن كان ضحيتها وتعصّب لها أكثر الجميع، بما فيها الخمينية التي قال صاغية فيها الأزجال، مدحًا بها وقدحًا بنفسه، ما يفسّر كثيرًا من رغبته اللاحقة في التنكيل بها:
«لقد فاجأنا الخميني لأنّه جاء من خارجنا ومن داخل الحقائق التي كنا خارجها... جاء الخميني من خارجنا وباغتنا وطرح التحدي، وفي الحقيقة كان هو في «الداخل» ونحن في «الخارج»، في منفى الثقافة الأوروبية التي لم تستطع أن تفكّ الحروف المعقدة في التنظير لخصوصية هذه المنطقة، وبالتالي في ممارسة هذه الخصوصية». («السفير» 2/12/1978).
لكن ماذا لو كان صاغية أمام خصوم غير هذا الخصم الذي يخترعه: خصوم لا يتصرفون انطلاقًا من عناد أو غباء أو تحجّر أو أيديولوجيا، وليسوا خارج العصر، بل ويعترفون بالهزيمة، لكنهم يرون - مثلما يحق لصاغية أن يرى، ولو بلعبة ذهنية شبيهة بألعابه الذهنية الفقيرة من دون أن يغادروا حتى منطقه البائس هو نفسه- أنَّ المقاومة، لا الاعتراف بالهزيمة، هي التي يمكن أن توقف الجيش المتوحش الذي لا يرحم، وتنقذ البشر وتقلّل الأكلاف، ولا تأتي بحكومة من النوع الذي يحبّه تخفف عن إسرائيل عبء الاحتلال؟
بل ماذا لو كان صاغية أمام خصوم يرون أنّ الهزيمة هذه المرة تعني أن نبدأ تخبّطنا بدمائنا كطوائف وجماعات ودويلات من أجل بقاء الطائفة والجماعة والدولة الأمتن والأقوى والأغنى: إسرائيل؛ كما تعني أن يتواصل تحويل المنطقة إلى عبيد ونواطير نفط، مع احتمال أن يُستبدل بهؤلاء النواطير هنود أو باكستانيون أو سواهم -ممن قد لا تروقهم خدماته كما تروق النواطير الحاليين- من أجل مزيد من التخبّط في الدم؟
هل يعلم صاغية عدد الاحتمالات المغايرة لما يراه التي يمكن أن تسفر عنها هذه الألاعيب الذهنية، فما بالك بفهم الواقع وتحليله بما أوتي الناس من قدرة وعلم ومقاومة.
ظاهرة حازم صاغية، مثل ظاهرة أحمد بيضون الذي لم يكد ينبس ببنت شفة عن «النصرة» و«داعش» وأشباههما في سوريا، لكنه كتب يسخر من الشهيد السنوار: «العصا - على حدّ علمي - كانت بيمين موسى. وأمّا يحيى فقيل له: «خُذ الكتابَ بقوّة»! والظاهر أنّه كان مصغيًا إلى غير ربّه فلم يسمع»...
وظاهرة حازم وأحمد «إم بي سي» (كنيتهما الجديدة) جوهرها جمهورهما التّعس من أرباع القرّاء والكواتيب، ليس غير.
هل أشعر بأي تأنيب ضمير حين أقول هذا؟
أجل، أشعر بالقدر ذاته من تأنيب الضمير الذي شعر به حازم إم بي سي حين نُشر زميله في الجريدة ذاتها، فنسي حتى اسمه، ولم يفه قط بحرف واحد عنه، ولو كان شتيمة حتى.
أجل، أشعر بالقدر ذاته من تأنيب الضمير الذي شعر به مؤرخ يقترب من ثمانينياته وهو «يُلَخْبِص» بجثة شهيد قتلته "إسرائيل" قبل أن يجفّ دمه، ثم يأتي لينكّل بلينين مستخدمًا إيّاه تكئةً لتبرير فعلته: «لا أعرف من بقي على مذهب لينين، في ديارنا اليوم. من جهتي غادرتُ هذا المذهب قَبْلَ خمسين سنة! مع ذلك، وجدتُ أنّ هذا النصّ الواضح يُفترَضُ أن يخاطبَ أناسًا غير قلائل حولَنا موزّعين بين مذاهب شتّى، محبّذين كانوا أم معادين للينين ولمذهبه: «القبول بدخول المعركة حين تكون المصلحةُ الواضحةُ فيها مصلحةَ العدو إنّما هو جريمة. والذين لا يعرفون كيف يزوغون ويهادنون ويساومون للتحاشي من معركةٍ ظاهرةِ المخالفةِ للمصلحة هم قادةٌ سياسيّون للطبقة الثوريّة مثيرون للشفقة» (لينين، مرض الشيوعيّة الطفولي - عن الطبعة الفرنسيّة) ».
هل كان لينين ليقف ضد - أو مع- ما فعلته المقاومة؟
ظاهرة حازم صاغية، مثل ظاهرة أحمد بيضون الذي لم يكد ينبس ببنت شفة عن «النصرة» و«داعش»، لكنه كتب يسخر من الشهيد السنوار
كان لينين قائدًا سياسيًا عظيمًا ومنظّرًا ماركسيًا عميقًا في الوقت ذاته. تختلط في معظم كتاباته هاتان الخصلتان أشد الاختلاط، ما يحتّم على القارئ أن يحارب على الجبهتين معًا، وإلّا وجد الرجل متناقضًا يهجو في كتاب شخصًا أو سياسةً مدحهما في كتاب آخر، أو حتى في الكتاب الواحد ذاته. هذا يعني أنّ الاستخلاصات العامة المجرّدة مما كتبه عن سياقات محددة هي استخلاصات خطرة إذا ما رُبطت أو جرى التعلّم منها أبعد من الطريقة أو المنهج الذي يربط النظرية بالممارسة.
خطرة، لكنها ليست خاطئة بالضرورة، فنحن نقرأ ما كُتب في سياق معين لا لنعرف التاريخ فقط، بل لنستهدي في سياق آخر، ولنتملك طرائق ومنهجيات أيضًا.
هذه المعركة الدقيقة، وبالغة الضرورة، وكثيرة الفشل، على جبهتين لدى قراءة لينين، لا تخصّه وحده في الحقيقة، بل تخصّ، في النهاية، كلّ كتاب أو كتابة. فالسياق، أو التاريخ، له أثره في كلّ مكتوب مهما كان تجريده النظري، أو جنسه، بما في ذلك الأدب. ليس هذا بالمقام المناسب لضرب الأمثلة، ولكنّ لعلّ هذا المثال المبسّط أن يفيد:
سُئلَ لينين مرّةً: «ما رأيك بمن يقول الاشتراكية ديني؟».
كان ذلك بعد فشل ثورة 1905 الديموقراطية في روسيا وإغراقها بالدماء، وانتقال كثير من الاشتراكيين إلى أنواع شتّى من الإيمان المسيحي، لدرجة تأسيس حركة سياسية وفكرية باسم «الباحثين عن الله»، كان بين صفوفها الكاتب الروسي مكسيم غوركي وماركسيين آخرين. كعادة لينين في الابتعاد عن الإجابات المسطّحة أحادية الوجهة، أجاب: «الأمر يختلف. إن كان من يقول ذلك متديّنًا، فهذا تقدّم في تفكيره مرحَّب به. وإن كان القائل اشتراكيًا فذلك تدهور يدعو إلى الرثاء».
ليست هذه سوى كلمات سريعة للحديث عن الاستشهاد السائر هذه الأيام بكتاب لينين الشهير عن الطفولية اليسارية وكونها مرضًا في الشيوعية، ذلك الكتاب الذي يُشهر في وجه اليساريين الذين يقفون اليوم مع المقاومة أو يُشهر في وجه المقاومة ذاتها.
كتاب لينين هذا، الممتاز في سياقه، هو أكثر الكتب الماركسية استشهادًا بها من قبل القيادات الانتهازية الهرمة الخرفة في الأحزاب الشيوعية الرسمية التي تُشهره في وجه الدعوة إلى أي تجديد أو توجّه ثوري داخلها أو خارجها، حتى بات للكتاب صيت سيّئ طغى على ألمعيته في حينه وفي سياقه. لكن التجربة تبيّن أن كثرة الاستشهاد بهذا الكتاب لا تقتصر على القيادات الهرمة، بل تتعداها أيضًا إلى فتية، في الإطار اليساري الماركسي يعانون من خصاء فكري باكر.
مشكلة هؤلاء اليوم، بشأن المقاومة، لا تقتصر على أنّ أنصارها اليساريين يمكن أن يشهروا نصوصًا لينينية أخرى في وجه هذه النصوص وأصحابها، مرتكبين غلطتهم النصوصية ذاتها، أيّ هزأة وتفاهة أن أُشهر في وجهك في ظرف معين مختلف وبالغ التعقيد قولًا لأحد ما قاله في ظرف آخر وسياق آخر!
مشكلتهم تتعدّى ذلك إلى أنّ الأخوة المقاتلين من «حماس» و«حزب الله»، قد لا يعترفون تحت القصف وفي ظلّ ما يخوضونه من معارك، بالطبعة أو الترجمة أو المترجم أو الدار الناشرة لهذه النصوص (مثلًا، كالطبعة الفرنسية التي يستشهد بها الدكتور أحمد بيضون، ولا سيما بعدما نكّل، بكل جلال شيخوخته وعلمه، بجثة شهيد كالسنوار، فيطالبون بغير طبعة. بل قد يحتجون أيضًا، إذا أتاحت لهم المعارك الوقت، بأنّ الدكتور المذكور لم يعرض طبعته الفرنسية هذه على حلفائه «النصرة» ومطياتهم المتلبرلة الشبيهة به في ما دعي «الثورة» السورية.
بل إنَّ مشكلتهم الأبعد من ذلك، أنَّ «حماس» و«حزب الله» ليسوا على مذهب لينين، وقد لا يسمعوا للأناس الذين يريد الدكتور أن ينوّرهم بلينين عساهم ينوّرون «الحزب» و«حماس» كي يستسلموا، ولا يفضّلوا على الاستسلام مواصلة مقاومتهم الإبادة.
السؤال في هذه الحال، إذًا، ما عسى دكتورنا فاعلٌ -إذا افترضنا حسن النيّة-، هو وبعض الفتية المذكورين آنفًا، غير انتظار أن تفتك "إسرائيل" بالمقاومتين في طريقها للفتك بنا أجمعين؟
هذا سؤال لينيني بالمناسبة.
أما تراشق النصوص مهما بدت قوية، ولا سيما نصّ كتاب «اليسارية مرض طفولي في الشيوعية»، فلعبة انتهازيين خرفين أو صبية طواشيين باكرًا.
هؤلاء لا يكفّون، بآلاف الأشكال، عن الإجابة عن السؤال المجرد من أيّ أخلاق وأي معرفة والذي مسح به العالمُ كلُّه الأرض، «هل تدين حماس؟» بـ«نعم أدينها». إجابة خالية من أي أخلاق ومن أي معرفة، كما أنّها خالية من أي احتراس، كائنًا من كان المنتصر.