تحوّلت أزمة حصار آل بركات، في رب ثلاثين (قضاء مرجعيون في محافظة النبطية)، إلى قضية رأي عام، تفاعلت من أستراليا إلى فرق الإغاثة والجيش اللبناني. مع اقتراب توغّل «جيش» العدو الإسرائيلي باتجاه البلدة الحدودية قبل أيام، أصبح صمود الأسرة انتحارًا. لم تفلح أيّ اتصالات في إنقاذهم، فقرروا سبر المغامرة على الطرقات الخطرة للنجاة بأنفسهم.
حوالى عشرة أيّام بعد تصاعد العدوان الإسرائيلي، ظنَّ أقرباء رمزي بركات وزوجته منى أحمد، أنّهما قد استشهدا مع ولديهما محمد وحسين ومع حسن بركات، شقيق رمزي، جرّاء الغارات والقصف المدفعي الذي تركّزَ على رب ثلاثين منذ بداية الشهر الجاري. ومع حشد العدو لقواته قبالة العديسة ووادي هونين ومركبا للدخول إلى محور رب ثلاثين - الطيبة باتجاه نهر الليطاني، فُقدَ الاتصال مع آخر المدنيين الصامدين في ذلك المربع. في آخر اتصال أجراه الوالدان مع بناتهما بتول وزينب وفاطمة، تحدثا عن قصف مدفعي مركّز يستهدف محيط المنزل المقابل للمواقع المعادية في مسكفعام والمرج ووادي هونين.
بعدها، انقطع التواصل معهما بالكامل. حاول أولادهما ورئيس بلدية رب ثلاثين علي بركات وآخرون التواصل مع السفارة الأسترالية في بيروت واليونيفيل والصليب الأحمر الدولي واللبناني والجيش اللبناني للوصول إليهم وإجلائهم. لكن تلك الجهات وجدت صعوبة في الوصول إليهم بعد تصاعد الغارات والقصف واستهداف مواكب الجيش وفرق الإغاثة وأصبحت العائلة في عداد المفقودين أو المستشهدين لأيّام عدّة. إلى أن تلقّت بنات بركات اتصالًا من العائلة أخيرًا، يبلغهن بأنّهم تمكنوا من الخروج من رب ثلاثين وهم في طريقهم إلى بيروت.
في حديثه إلى جريدة «الأخبار»، يشير بركات (60 عامًا) إلى أنّه قرر مع زوجته عدم تضييع الوقت أكثر. سقط صاروخ على سطح منزلهم، دمَّرَ الطبقة العلوية وخزانات المياه وشبكة الكهرباء والهاتف والإنترنت. «صارت المسألة حياة أو موتًا. وفي حال اقترب جنود العدو منا، سنموت حتمًا». في سيارته الصغيرة، صعد مع أسرته وشقيقه وعدد من القطط الشاردة التي كان يرعاها طوال أشهر العدوان، لكنّه اضطر إلى تسريح الدجاج والكلاب لعدم قدرته على اصطحابها إلى بيروت. اختار الطريق الأقل خطرًا بحسب تقديراته، رغم أنّه لم يكن على دراية بمجريات المعركة بعدما انقطع عن وسائل الاتصال والإعلام. من القنطرة نزولًا باتجاه وادي الحجير حتى قعقعية الجسر والنبطية، مرَّ بطرقات محفرة يعلوها الردم والصخر التي أزالها بيديه.
طوال العام الماضي، شكّل صمود أسرة بركات جدلًا لدى بعضهم. كلما تصاعد العدوان على البلدة وجاراتها وادي هونين والعديسة ومركبا والطيبة، ازداد الضغط عليهم للنزوح كما فعلت غالبية جيرانهم. كانت لديهم، بنظر كثيرين، مقومات تسهّل عليهم المغادرة: جنسيتهم الأسترالية، وإمكاناتهم المادية واللوجستية. عندما كان يغيب بركات في أستراليا لأشهر لمتابعة أشغاله، كانت زوجته منى (49 عامًا) تستكمل صمودها بمفردها مع أولادها وشقيق زوجها المعوق. يروي بركات فصول معايشة أسرته للعدوان وسبب رفض الرضوخ للخوف، فيشير إلى عام 1967، عندما اضطر والده إلى النزوح من رب ثلاثين بعد تصاعد الاعتداءات على المنطقة الحدودية، فنشأ بركات في حي النبعة في بيروت ثم في رويسات المتن قبل أن يسافر إلى أستراليا في العام 1987. عندما زار مسقط رأسه بعد تحرير الجنوب في العام 2000، استعاد بركات الانتماء الذي كان قد فقده بين النزوح والهجرة القسريين. شيّدَ منزلًا له ولوالدته ولشقيقه من أجل الاستقرار في رب ثلاثين. وعندما تزوّج من ابنة الخيام، استقرّت الأسرة في مسقط رأسه فيما هو كان يتنقل بين رب ثلاثين وأستراليا.
تجربة الحصار الأخير، عاشتها منى بمفردها مع ابنتها فاطمة وطفلها علي، ذي العشرين يومًا. نزحت إلى الخيام حيث حوصرت عشرين يومًا قبل أن تغادر ببواخر الإجلاء إلى قبرص. أمّا في العدوان الحالي، فأمضت الأسرة أشهرًا طويلة بمفردها، وكان التنقل يصعب تدريجًا. في الأشهر الأولى، كانت منى تؤمّن حاجياتها من النبطية والطيبة، ثمّ من دير سريان بعد استهداف الطيبة والطريق من رب ثلاثين حتى الشومرية. وفي الأشهر الأخيرة، صعب التنقل في محيط منزلها. مواجهة القصف كانت أهون على الأسرة من النزوح، ولا سيما بسبب مرض أحد أفرادها. يقول بركات، إنّه بعد تصاعد العدوان «أصبحنا نقرأ الشهادة كل ليلة قبل أن ننام لشعورنا بأنّ الغارة المقبلة سوف تستهدفنا».