في منتصف الشهر الماضي أقالت مديرة متحف نوغوتشي للفنون في الولايات المتحدة ثلاثة موظفين بسبب إعلانهم التضامن مع الفلسطينيين الذين يتعرّضون لإبادة جماعية في قطاع غزة. وكان الموظفون الثلاثة قد أعلنوا رفضهم للقرارات التي اتخذتها إدارة المتحف بفرض سياسة جديدة لقواعد اللباس تحظر على الموظفين رفع الشعارات السياسية، واعتبرت الإدارة الكوفية الفلسطينية من بين هذه الشعارات.
على أثر هذا القرار وقَّع أكثر من 50 موظفًا في المتحف على عريضة داخلية تطالب بإلغاء هذه السياسة. وأعلن العاملون أنه ليس من الإنصاف منعهم من التعاطف الرمزي مع الفلسطينيين في الوقت الذي يتعرضون فيه للإبادة الجماعية، مضيفين أنّ مثل هذه القرارات المتسرّعة من شأنها أن تلحق الضرر بسمعة المتحف ومصداقيته. وقد وقع العاملون على هذه العريضة آملين أن تستمع قيادة المتحف إلى مخاوفهم وتلتزم بإرث مؤسس المتحف إيسامو نوغوتشي النضالي وتسمح بتنوع وجهات النظر. وأضافوا في عريضتهم أن القرارات التي اتخذتها إدارة المتحف بمنع ارتداء الكوفية الفلسطينية لا تخدم رسالة المتحف، كما أعلنوا رفضهم فصل السياسة عن المؤسسات الثقافية. ذكّر البيان أيضًا بأن الحي الذي يوجد فيه المتحف يتميز بالتنوع الثقافي والعرقي ويضم عددًا كبيرًا من السكان الفلسطينيين، ويشكل حظر الكوفية تحديًا لهذا التنوع وسابقة غير معهودة للمؤسسة.
لم تتراجع إدارة متحف نوغوتشي عن موقفها، وأقالت الموظفين الثلاثة بسبب إصرارهم على ممارسة حقهم في التعبير بارتداء الكوفية الفلسطينية كإعلان للتضامن مع الشعب الفلسطيني. تسبب فصل هؤلاء الموظفين في موجة من الاعتراضات وبيانات الإدانة من قبل العديد من الفنانين والمثقفين، ومن بينهم الكاتبة الحائزة على جائزة بوليتسر جومبا لاهيري، التي أعلنت رفضها للجائزة الممنوحة لها من المتحف.
بين الفنانين الذين أعلنوا رفضهم لقرارات المتحف يأتي ديفيد هورفيتز، وهو فنان أميركي من أصل ياباني، والفنان العراقي المُقيم في الولايات المتحدة علي عيّال. اتفق كل من هورفيتز وعيال على إعلان رفضهما لقرارات المتحف بطريقتهما الخاصة، إذ توجه كلاهما إلى إحدى الساحات العامة في مدينة لوس أنجليس التي تضم تماثيل حجرية لمؤسس المتحف إيسامو نوغوتشي ووضعوا الكوفية الفلسطينية على كل تمثال من التماثيل المعروضة. وحين نشر الفنانان الصور التي التقطاها للتماثيل الحجرية مع الكوفية فوجئا بتفاعل كبير وتشجيع من قبل المُتابعين لهما على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا التفاعل الكبير مع الصور دفع الفنانين إلى معاودة التجربة في أماكن أخرى. بعدها بأيام قليلة كرر الفنانان الأمر نفسه في حديقة فرانكلين مورفي للنحت بجامعة كاليفورنيا، والتي تضم أحد الأعمال الشهيرة لنوغوتشي.
يقول هورفيتز: "كنا حريصين أثناء قيامنا بذلك على عدم لمس الأعمال الفنية المعروضة في هذه الحدائق، احترامًا لعمل نوغوتشي وسيرته من ناحية، وإجلالًا أيضًا لكوفية عيال التي ورثها من والده. كان الفنان العراقي المولد صبيًا عندما اختفى والده في عام 2006، بعد اختطافه من قبل إحدى المليشيات المُسلحة، ولم يعد".
أما عيال فيصرح: "حين اختفى أبي فقدنا كل شيء، وهذه الكوفية هي الشيء الوحيد الذي يذكرني به. حمل عيال هذه الكوفية معه، كما يقول، أينما حل، كانت معه عندما انتقل من العراق إلى بيروت للإقامة كفنان في عام 2016، ثم إلى أوروبا، وهي ترافقه الآن في لوس أنجليس حيث يقيم حاليًا بشكل دائم. يشعر عيال بأن ما قام به يضيف قيمة لهذه الكوفية التي يعتز بها، فهو حين أقدم على توظيف الكوفية بهذه الطريقة شعر كما يقول بأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب فعله بهذه القطعة من القماش لإعطائها صوتًا ومعنى، ولإظهار الدعم لفلسطين".
بالنسبة إلى هورفيتز فقد كان الأمر ينطوي على بعد رمزي، إذ تتشابه سيرته الشخصية، كما يقول، مع سيرة نوغوتشي على نحو لافت. كلا الفنانين من مواليد لوس أنجليس، وأحد والديهما من أصل ياباني. سُجِن أجداد هورفيتز من جهة الأم في معسكرات الاعتقال اليابانية أثناء الحرب العالمية الثانية كما حدث مع نوغوتشي، الذي سجن في هذه المعتقلات نفسها في عام 1942. من المثير أيضًا أن هورفيتز علم أخيرًا أيضًا بأن جده كان محتجزًا في معتقل أريزونا وهو أيضًا المعسكر نفسه الذي نقل إليه نوغوتشي أثناء اعتقاله.
قبل سجنه عاش جد هورفيتز في لوس أنجليس حين صمم نوغوتشي مركز الثقافة والمجتمع الياباني الأميركي في أوائل الثمانينيات. يتذكر هورفيتز زيارته لهذا المركز عندما كان طفلًا، حيث كان يلهو بجوار هذه المنحوتات الحجرية الكبيرة التي أبدعها نوغوتشي. شعر هورفيتز بالسعادة، كما يقول، حين عاد إلى هذه الساحة نفسها مرة أخرى مع الفنان العراقي علي عيال ليضع الكوفية الفلسطينية على إحدى الكتل الحجرية الضخمة التي كان يلهو حولها وهو صغير.
متحف نوغوتشي هو مؤسسة مُخصصة لإرث الفنان إيسامو نوغوتشي (1904 - 1988)، وهو أميركي من أصول يابانية كرس حياته لمناهضة الحرب. دخل نوغوتشي طواعية معسكر اعتقال للأميركيين اليابانيين في العام 1942 أثناء الحرب العالمية الثانية. وقد ابتكر الفنان سلسلة من المنحوتات حول تجربة اعتقاله. صنع نوغوتشي عشرات الأعمال الأخرى تأثرًا بالدمار الذي خلفه الهجوم الأميركي على هيروشيما وناغازاكي، وهي الأعمال التي جمعها في هذا المتحف الذي أسسه قبل وفاته.