إثر عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، سارع عمالقة التكنولوجيا إلى التعبير عن تضامنهم مع "إسرائيل"، وخرج مسؤولون من شركات مثل "ميتا" و"غوغل" لتأييد العدوان الإسرائيلي على غزة والادعاء أنه "دفاع عن النفس". منذ ذلك الحين، صدرت تقارير متعدّدة عن عمليات القمع والرقابة التي تفرضها هذه الشركات على موظفيها من مؤيدي القضية الفلسطينية، وصولًا إلى طردهم من العمل، في مقابل تساهلها مع مناصري "إسرائيل"، حتى حين يتضمن كلامهم تحريضًا أو عنصرية أو تشجيعًا للكراهية.
في تقرير صدر الأسبوع الماضي، وثّق مركز حملة الفلسطيني، ومقرّه حيفا، قمع مناصرة القضية الفلسطينية في قطاع التكنولوجيا، من خلال جمع شهادات موظفين حاليين وسابقين في كبرى الشركات حول الأساليب التي واجهت بها الإدارات التحركات أو حملات التبرع للفلسطينيين، وصولًا إلى منشوراتهم على الشبكات الداخلية للمؤسسات.
على الرغم من أن انحياز القطاع التكنولوجي لإسرائيل ليس مفاجئًا، إذ يرتبط الكثير من عمالقة القطاع بعقود واستثمارات في دولة الاحتلال، أبرزها مشروع نيمبوس الحكومي الذي تشارك فيه كل من "غوغل" و"مايكروسوفت"، إلا أن تقرير "حملة" يعطي فكرةً عمّا يجري خلف الأبواب المغلقة لكبريات الشركات، وعمليات التضييق والقمع والتنمر التي قد يتعرض لها الموظفون المناصرون لفلسطين من زملائهم، وكذلك من الإدارات ورؤسائهم في العمل. واعتمدت "حملة" على مقابلات مع 25 موظفًا يعملون أو عملوا في شركات ميتا وغوغل وآبل ومايكروسوفت ولينكد إن وباي بال وسيسكو.
"ميتا": معايير مزدوجة
تعامل "ميتا"، التي تملك مجموعة من شبكات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وإنستغرام وواتساب، مع القضية الفلسطينية مثالٌ على كيفية انتهاك الشركات معايير وسياسات حقوق الإنسان التي وضعتها بنفسها. وتحدّث موظفون سابقون في "ميتا" عن عملية قمع وإسكات الأصوات الفلسطينية أو المناصرة لقطاع غزة على مجموعات شبكتها الداخلية التي تهدف أساسًا للتواصل والتقارب بين الموظفين، مثل@Muslim و@Palestinian، حيث حذفت الكثير من التعليقات والمنشورات، مقابل غياب الرقابة عن مجموعات أخرى مثل @Jew و@TelAviv.
أشار موظفٌ في "ميتا" إلى أن المنشورات في نوفمبر/ تشرين الثاني وديسمبر/ كانون الأول الماضيين "لم تتعد عدد أصابع اليد، وأنه أُزيلت المنشورات التي لا تنتهك بأي حال من الأحوال إرشادات المجتمع"، لافتًا إلى إزالة منشورات من قبيل "لقد فقدت أحد أفراد عائلتي"، أو "هذه المساحة هي مساحة مشاركة حزن الناس". فيما أوضح موظف آخر أن الإدارة بررت الرقابة بـ"حظر النقاش حول النزاع المسلّح أو الأشياء التي تسبب الاضطراب"، منبّهًا إلى أنّ ذلك لا يحدث مثلًا في المجموعات والمنشورات المرتبطة بروسيا وأوكرانيا.
هذا؛ وقالت سايما، والتي طردتها "ميتا" من وظيفتها في يونيو/ حزيران الماضي، إن الأجواء التي سادت الشركة "اتسمت بالإسكات والضغط لتجنب موضوع الحرب على غزة مع التركيز على الإنتاجية". أزعجت هذه الرقابة المفرطة على الموظفين، وكذلك على منصات الشركة، بسايما وعددٍ من زملائها، الذين اضطروا إلى كتابة رسالة داخلية موجهة إلى زملائهم وإدارة "ميتا"، طالبوا فيها الإدارة بالاعتراف بالإبادة الجماعية المستمرة في قطاع غزة المحاصر، وخلق بيئة آمنة للمجتمعات المختلفة، وخصوصًا الفلسطينيين، إضافةً إلى إنهاء الرقابة على الصوت الفلسطيني في المنصات.
على الرغم من فشل المحاولة، إلا أن ذلك لم يحبط الموظفين عن مواصلة مواجهة انحياز الشركة ورقابتها المفرطة. إذ أنشأ عدد منهم مؤخرًا "مجموعة عمل فلسطين" للحد من تحيز الشركة وإتاحة التواصل. وقال أحد الموظفين لـ"حملة" إن "جهودهم في الإبلاغ المضاد، والتشكيك باستمرار في قرارات القيادة بشأن إزالة المنشورات، والانخراط في استراتيجيات النشر المتكرّرة في محاولة لإبقاء المنشورات مرئية، قد أدّت إلى مزيد من التقدّم في ما يتعلّق بمكافحة الرقابة الداخلية بعد خوض العديد من المعارك مع القيادة". ولفت إلى خوف الكثير من العاملين في الشركة من خسارة وظائفهم، لكنه رأى في الوقت عينه أن ضغط المزيد من الموظفين على قيادة الشركة لتعديل سياساتها قد يؤدي إلى مزيد من التغيير.
"غوغل": تمييز وقمع
بشكل مماثل لشركة ميتا، اعتمدت "غوغل" إجراءات تمييزية ورقابية صارمة بحق المناصرين لفلسطين داخل شركاتها ومنصاتها الداخلية. وقال أحد الموظفين الذين طردوا في إبريل/ نيسان الماضي بعد احتجاجهم على دور "غوغل" في مشروع نيمبوس الحكومي الإسرائيلي، إنّ القيادة العليا للشركة حرصت بعد بدء الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022 على التعبير عن تضامنها مع الشعب الأوكراني. أما بعد بدء العدوان على غزة، فقد امتنعت الإدارة عن أي تعبير من هذا النوع، بل حظرت تنظيم أي فعالية تتعلق بفلسطين على منصاتها الداخلية عبر إغلاق الرسائل والمنشورات أو حذفها.
لفت الموظف نفسه إلى أنّ مؤيدي إسرائيل على مجموعة "Jewglers" الداخلية كانوا يبلغون بشكل منظم عن المنشورات المتعلقة بفلسطين، وكانت الشركة تستجيب بحذفها تمامًا، فيما أشار موظفٌ آخر إلى أنّ حجة الإدارة كانت "إذا كان هذا المنشور يجعل شخصا ما يشعر بعدم الأمان، فسنغلقه". بينما لم تستجب الإدارة لبلاغات الموظفين حول منشورات ورسائل مؤيدة لإسرائيل تحوي صراحة على خطاب كراهية أو محتوى عنصري أو معادٍ للإسلام. كما أبقت على العديد من المنشورات التي تضم معلومات كاذبة، مثل شائعة قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين في السابع من أكتوبر.
وأشار موظف آخر إلى قيام عددٍ من الموظفين المناصرين لإسرائيل، بخبث، بتحويل روابط تبرع لمنظمات فلسطينية إلى روابط للتبرع لمنظمات مؤيدة لإسرائيل، لافتًا إلى أن قسم الموارد البشرية لم يفتح أي تحقيق ولم يتخذ أي إجراء تأديبي بحق من فعل ذلك.
"مايكروسوفت" و"باي بال"
بدورها، انحازت شركة مايكروسوفت بوضوح منذ بداية الحرب على غزة لصف إسرائيل ومناصريها، وميّزت بشكل واضح في الرقابة على المحتوى الفلسطيني مقابل التساهل مع المنشورات المؤيدة لإسرائيل على منصاتها الداخلية. ووصف أحد الموظفين لمركز "حملة" الجو على منصة مساحة العمل الداخلية في "مايكروسوفت" بأنه "معادٍ للعرب بصراحة"، كما لفت إلى منشورات عديدة ألمحت إلى أن "الفلسطينيين دون البشر، وبرّرت قتل الأطفال وقصف المستشفيات، وذكرت أنّ جميع الفلسطينيين متواطئون في الإرهاب". كما نبّه إلى أن البلاغات المتكررة من الموظفين حول هذه التعليقات لم تجد تفاعلًا من إدارة "مايكروسوفت"، التي لم تجد فيها ما ينتهك سياسة التحرش والتمييز للشركة.
بعد نشره تعليقًا يقول: "سيحصل الفلسطينيون من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط على الكرامة التي يستحقونها" على المنصة الداخلية للشركة، أُبلغ عنه وخضع لتحقيق استمر ثلاثة أشهر، خلص إلى أنّ كلامه ينتهك سياسة الشركة المناهضة للتحرش والتمييز. في المقابل تغاضت الشركة عن المضايقات التي تعرض لها الموظف والاتهامات التي لاحقته بأنه "معاد للسامية"، وصولًا للادعاء بأنه "عضو في حماس".
بشكل مماثل، أعرب موظفو "باي بال" الذين تحدثوا لمركز حملة أن السياسات الداخلية للشركة متحيزة لإسرائيل. كما لفتوا إلى أن استخدام لكلمات مثل "فلسطين" أو "الإبادة الجماعية" على الشبكة الداخلية قد يؤدي إلى فتح تحقيق وحذف المنشور فورًا. كما كان هناك نقاش في الإدارة حول حظر استخدام عبارة "وقف إطلاق النار".
سبّبت هذه الرقابة حالة خوف بين الموظفين المناصرين لفلسطين من خسارة وظائفهم، فيما امتلأت المجموعات الداخلية لمناصري إسرائيل بمنشورات تحض على العنف والكراهية بوضوح، حتى بعد الإبلاغ عنها أكثر من مرة. كذلك، شهد موظفو "باي بال" حالات عدة منع فيها تحويل الأموال، وجرى تقييد الحساب إذا ذكر المستخدم عبارة غزّة أو فلسطين في معاملاته. مع العلم أن الشركة تحظر على الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية استعمال خدماتها منذ ما قبل الحرب بوقتٍ طويل.
كما أشار موظف إلى أنّ الشركة تبرّر عدم تقديم الخدمات في فلسطين، أو للفلسطينيين، بحجة "أخطار الجرائم المالية" و"إمكانية دعم الإرهاب"، في الوقت الذي يستطيع فيه المستوطنون المقيمون في الضفة الغربية المحتلة استعمال "باي بال" بشكل طبيعي.