نعلم أنّ المخرج البريطاني تحوّل على مرّ السنين إلى انتحاري! لذلك، فـ«المصارع 2»، كان دومًا يلوح في الأفق، وها هو يُطرح قريبًا في الصالات اللبنانية. هنا يُعيد «سكوت» إحياء قصة المصارع الذي أُجبر على القتال من أجل البقاء، ويضيف إليها المزيد من المعارك، والمزيد من القوادس، والمزيد من المقاليع، والمزيد من الحيوانات الغريبة، والمزيد من الدماء، والمزيد والمزيد والمزيد!
بدأ المخرج البريطاني «ريدلي سكوت» القرن الحادي والعشرين بفيلم «المصارع» (2000)، كضربة قوية على الطاولة، ليقول: لا أزال هنا. أنقذ «المصارع» سمعة «سكوت» (التي لا تشوبها شائبة على أي حال)، بعد سلسلة من الأفلام التي فشلت في شباك التذاكر ولم تحظَ بحفاوة نقدية. في التسعينيات، بدأ منتصرًا بفيلم «ثيلما ولويز» (1991)، ثم انهار عامًا بعد عام، تمامًا كما حدث في الثمانينيات، حيث تعثر مرارًا بعد فيلمه «بلايد رانر» (1982). عودة سكوت الدائمة تُعزى جزئيًا إلى قدرته على إخراج الأفلام بشكل مستمر وغزير، وهو عمل لا يستطيع القيام به إلا حفنة من المخرجين العظماء.
قبل أربعة وعشرين عامًا، أقنع «المصارع» الجمهور والنقاد والأكاديمية، ففاز بخمس جوائز أوسكار منها أفضل فيلم وأفضل ممثل. قليلة هي الأفلام التي تنجح في ترسيخ نفسها في الذاكرة الجماعية، حيث صورة واحدة فقط، أو مقطع واحد من الموسيقى التصويرية، أو عبارة صغيرة كافية لمعرفة ما يتم الحديث عنه. فيلم «المصارع» هو بلا شك واحد من هذه الأعمال. عندما ماتت سينما الحقب الرومانية، أخرج سكوت من قبعته تحديثًا قويًا، بدعم من التقنيات الحديثة، إذ أعاد بناء روما القديمة في قصة انتقام حققت الكثير. كان الفيلم شاملًا، أسعد الجميع وكان واضحًا في ذلك الوقت أنّه يتمتع بالقوة للتأثير في الناس، وأثبت الوقت صحة ذلك. «المصارع» أيقونة شعبية وجملة «اسمي ماكسيموس ديسيميوس ميريديوس، قائد جيوش الشمال، وجنرال فيلق فيليكس والخادم والمخلص للإمبرطور ماركوس أوريليوس. والد لابن مقتول، وزوج لزوجة مقتولة.
الإثارة والترفيه
وسأنتقم، في هذه الحياة أو الحياة الأخرى»، أصبحت واحدة من أعظم اقتباسات السينما. لقد استحق الفيلم مكانته في تاريخ السينما، ولكنه كان على وشك أن يكون فيلمًا ساخرًا. كان أيضًا نتاج عصره، وكانت ملحمته المبالغ فيها، وذكوريته تقترب بالفعل من الابتذال. وهذه عناصر لا بد من أن تؤخذ في الحسبان إذا اتخذ شخص ما بكامل قواه العقلية، قرارًا انتحاريًا بصنع جزء ثانٍ منه. نعلم أنّ ريدلي سكوت لم يهتم قط بالمنطق، ويبدو أنه تحوّل على مرّ السنين إلى انتحاري. لذلك، فـ«المصارع 2»، كان دائمًا في الأفق، وهو سيُطرح قريبًا في الصالات اللبنانية.
بعد سنوات من وفاة ماكسيموس (راسل كرو)، يستمرّ الانحطاط والفساد في الإمبراطورية الرومانية. يخلف الإمبرطور كومودوس (واكين فينيكس)، التوأم غيتا (جوزيف كوين) وكاراكالا (فرّد هيشينغر). في الوقت نفسه، ينشأ لوسيوس (بول ميسكال)، ابن لوسيلا (كوني نيلسون)، وحفيد ماركوس أوريليوس (ريتشارد هاريس)، في منطقة بعيدة، بعدما هرّبته والدته. تتعرض حياته السلمية إلى جانب زوجته للتهديد بوصول الجيش الروماني بقيادة ماركوس اكاسيوس (بيدرو باسكال). يوقع القدر لوسيوس في الأسر. ومثل ماكسيكوس، يقوده إلى أن يصبح مصارعًا لمالكه الجديد ماكرينوس (دينزل واشنطن)، ويحوله التعطش للانتقام إلى محارب لا يمكن إيقافه. من مؤامرات القصر إلى المعارك الدموية في الكولوسيوم، يعيد سكوت إحياء قصة المصارع الذي أُجبر على القتال من أجل البقاء، ويضيف إليها المزيد من المعارك، والمزيد من القوادس، والمزيد من المقاليع، والمزيد من الحيوانات الغريبة، والمزيد من الدماء، والمزيد من الإسراف، والمزيد والمزيد والمزيد.
رغم أنّ سكوت ليس من النوع الذي يتلاعب بعوالمه الخاصة كمخرج، بل إنّه يسمح لشخص آخر بالاستيلاء على أفكاره، كما حدث في فيلم «بلايد رانر 2049» لدوني فيلنوف، إلا أن في حالة «المصارع 2»، من الجيد أن سكوت هو الذي أخرجه، لأنه يحقق في مكان ما تجانسًا معينًا وتناسقًا ضروريًا. لا يمكن إنكار براعة سكوت في تزويدنا بمغامرة كبيرة وبصور ملحمية ومبارزات جذابة. في سنّ السابعة والثمانين، يعود بنفس الطاقة والحيوية إلى محارب يبلغ من العمر ثلاثين عامًا. لكن لسوء الحظ، بدلًا من الحفاظ على هذه النغمة المتدفقة والمرحة، يحاول سيناريو ديفيد سكاربا (الذي تعاون مع سكوت في فيلم «نابوليون» السنة الماضية)، من دون جدوى إضفاء طابع روماني قوي على قصة بدائية جدًا، إلى درجة أنّ الفيلم يبدو وكأنه إعادة إنتاج أكثر من كونه تكملة.
«المصارع 2»، أقرب إلى آليات «مارفل»، منه إلى سينما الحركة الأكثر نضجًا. دعونا نكون واضحين: فيلم «المصارع 2»، يقع في فخ السخافة في مناسبات عدة، إلى درجة أن عددًا من الناس سيتساءلون عما إذا كان سكوت يسعى عمدًا إلى تلك النبرة الساخرة.
من الواضح أنّ آخر شيء يهتم به سكوت هو اتباع الحد الأدنى من الدقة التاريخية. وبصراحة، لا ينبغي لأي صانع أفلام أن يقلق بشأن ذلك، فالسينما لم تولد لإعطاء دروس في التاريخ. لذلك، عندما نرى في الفيلم شخصيةً تقرأ صحيفة مطبوعة قبل أكثر من ألف عام من اختراع الآلة الكاتبة، لا داعي للغضب أو الصراخ، بل الانفجار بالضحك. يبدو واضحًا أنّ سكوت يرتكب هذا النوع من المفارقات التاريخية السخيفة كشكل من أشكال الاستفزاز المتحدي لجميع المؤرخين، الذين كانوا مزعوجين من الحريات التاريخية التي اتخذها سكوت في فيلم «المصارع» الأول، وفيلم «نابوليون».
هؤلاء سوف يغضبون اليوم أكثر عندما يرون أسماك القرش تسبح في الكولوسيوم المغمور بالمياه، ووحيد قرن عملاقًا، وبعض قرود البابون الشرسة غريبة الشكل. إن هذه التناقضات التاريخية لم تكن من صنع سينما هوليوود، بل من صنع السينما الإيطالية في بداية القرن الماضي، التي عملت على ترويج السينما الرومانية التاريخية الملحمية عبر أفلام رائدة مثل «نيرو» (1909)، و«سابارتاكوس» (1913)، والتي أثرت بشكل كبير في السينما الرومانية الهوليوودية. لذلك، فالدقة التاريخية ليست ضرورية في هذا النوع من السينما، فالناقد الإيطالي الكبير ريتشيتو كانودو (1877 – 1923)، الذي كتب عددًا كبيرًا من المراجعات بين عامَي 1910 و1923، لاحظ بشكل لا يُنسى أن «السينما التاريخية المفترضة تتطلب حدًا أدنى من الخيال للحصول على أقصى قدر من الفخامة الباذخة، لأن الموتى لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم».
كعب أخيل فيلم «المصارع 2»، هو القصة التي كتبها سكاربا. بعد انتظار لمدة طويلة للجزء الثاني، نتوقع قصة جديدة لديها المزيد لتقدمه. إن أوجه شبه القصة بقصة ماكسيموس كثيرة جدًا. كان هناك الكثير من الحديث عن غياب راسل كرو عن الفيلم، ومع ذلك، فإن القول إنّ الممثل لا يظهر في هذا الفيلم، سيكون نصف الحقيقة. ربما لم يعد للعب الدور، ولكن هناك إشارات مستمرة لشخصيته، ومقاطع من الفيلم الأول. «المصارع 2» فشل في الخروج من ظل الفيلم الأول، بسبب الكسل السردي في السيناريو. يتجلى بسبب ذلك أيضًا انفصام الشخصيات عن القصة والممثلين، كأن كل واحد منهم في مكان مختلف وفيلم مختلف.
لا يوجد أثر لكاريزما بيدرو باسكال، الذي يبدو ضائعًا بلا هدف. كما يأخذ بول ميسكال كل سطر على محمل الجد، كما أن هيشينغر وكوين في دور كاراكالا وغيتا، يحاولان تقليد ما فعله واكين فينيكس في الفيلم الأول، ما يجعلنا نفتقده. كما أنّ شخصية لوسيلا تبدو باهتة، ودوافع لوسيو وقصة أصله والمخاطر التي يواجهها، سواء داخلية أو خارجية، تبدو أكثر فتورًا من ماكسيكوس. ومن الصعب تصديق القيادة التي يمارسها ويكتسبها مجانًا، لمجرد كونه بطل القصة، وعمود الفيلم. يبدو أن دينزل واشنطن هو الوحيد الذي يفهم التوازن بين الجدية والسخرية في شخصية الشرير. يسرق الممثل العرض في كل مرة ينطق كلمة «سياسة». نتيجة كل هذا، تبدو الحوارات معزولة، غير مترابطة، وتحدث تسلسلات من دون تدفق سردي، مثل شظايا غير متصلة تسعى فقط إلى التأثير البصري. ينتهي فيلم «المصارع 2» ليكون نسخة سيئة عن الفيلم الأول، مع سيناريو مشابه جدًا. أما بالنسبة إلى مشاهد الحركة والمؤثرات الخاصة، فهي على قدم المساواة مع بلاغة سكوت الإخراجية. هناك تسلسلات سريعة الخطى ولحظات دموية وعنف مستمر وعدة لحظات من الإبداع الخالص، فسكوت لديه دائمًا ورقة رابحة وخيال ساحق لا يقبل الشك.