وسام مصطفى ـ سفير الشمال
تفيد الجدلية الفلسفية للتاريخ بأن لا دوام لنظام طالما أنه يفتقد للعدالة في مفهومها الاجتماعي وتطبيقاتها العامة، فالعدالة غاية للشعوب تلتمسها في الأنظمة التي تختارها أو تسعى هي نفسها إلى تشكيلها، ويفترض هذا المنحى وجود حراك ثوروي سلمي أم غير سلمي على الحاكم الظالم؛ ولا فرق في أن يكون هذا الحاكم من بيئة الشعب نفسه أو معتدٍ خارجي يسعى لفرض هيمنته بالقهر والإكراه، فالأصل هو مقاومة الظلم والاحتلال لتحقيق الحرية الحقيقية وإنجاز العدالة.
وتبرز الثورة الفرنسية كترجمة عملية لهذا الحراك الذي قاد إلى تكوين الجمهورية الخامسة بقيادة الجنرال شارل ديغول وأسّس للنظرية الديغولية في التماس النهج واقتباس النموذج، نظراً لما قدّمته هذه الثورة من مفاهيم حول المقاومة ضد الاستبداد، وكرّستها في شعار الحرية والمساواة والإخاء.
إلا أن جدلية التاريخ تطرح إشكالية محورية حول هذا النوع من الثورات لما استبطنته من نهج تسلّطي سوّغ لهؤلاء “الثوار” ارتكاب فعل القهر والإكراه ضد الشعوب الأخرى بذريعة الحفاظ على الاستقلال وحماية المقدّرات الوطنية.
بمعنى أوضح، فإن الثورة الفرنسية ما لبثت أن ارتدت الثوب نفسه الذي قاتلت من أجل خلعه، فارتكبت المجازر الدموية المروّعة بحق السكان الأصليين في كل بلد وطئت أرضه أقدام جنودها المحتلّين – وأبرز مثال على ذلك الجزائر ولبنان – وساهمت في تعميق الاتجاهات الاستعمارية والإسهام في قمع الحركات المناوئة للاحتلال في العالم، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر للقول إن “أبناء المقاومة الذين قاتلوا لتحرير فرنسا في الحرب العالمية الثانية.. هم مثل الجنود الألمان، يقاتلون لأجل الفاشية”.
إذن، أصبحت القضية في استثمار فعل المقاومة – بعد استلام الحكم – فعل استعمار وهيمنة لأهداف سياسية واقتصادية، وحروباً استباقية من أجل نشر قيم “الديمقراطية” في الدول المتخلّفة ولدى الشعوب غير المتحضّرة، وتحوّلت عناوين الحرية والمساواة والإخاء إلى شعارات تغطّي ارتكابات الأنظمة الاستعمارية في أوروبا كلّها وتالياً الولايات المتحدة الأمريكية والأحلاف التي أنشأتها في أنحاء العالم كلّه.
هكذا غدت المقاومة عند هذا النوع من الأنظمة فعل احتلال فيما هي عند الشعوب فعل تحرّر، وهنا يكمن التناقض في المنطلقات والقيم والأهداف، والفرق كبير بين مقاومة تنشأ بهدف السيطرة والحكم وممارسة التسلّط وبين مقاومة تضحّي من أجل دفع الظلم ونيل الحرية والعدالة، ولكن جوهر المسألة يبقى في ديمومة دائرة الفعل بين الاحتلال والمقاومة ونتائجه، وجدوائية الالتصاق العضوي للمقاومة منهجاً وفكراً بالحراك الشعبي، فضلاً عن الأساليب والأدوات التي تسوّغ فعل المقاومة.
وإسقاطاً على الواقع الذي نشهده منذ عملية “طوفان الأقصى” قبل عام ونيّف حتى اليوم وما رافقه من جبهة إسناد وإشغال للمقاومة في لبنان ضد الاحتلال وصولاً إلى سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على سوريا وسقوط نظام الرئيس بشار الأسد، يبرز عامل ميداني خطير نجح في فرض واقع لم يكن بالحسبان طيلة سنوات الصراع العربي – الإسرائيلي، وتمثّل في استباحة العدو للأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية دون أي رادع أو وازع، ويحظى بتغطية واضحة من قبل الإدارة الأمريكية والدول الغربية.
كان من المفترض أن يؤدي قرار وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على الجبهة اللبنانية إلى لجم الاحتلال الإسرائيلي عن الاستمرار باعتداءاته ضد لبنان، خصوصاً مع التزام المقاومة بهذا القرار، إلا أنه استفاد من فترة “الوقت الفاصل” التي وفّرتها له هدنة الـ 60 يوماً لكي يمعن في ارتكاب جرائمه قصفاً وتفجيراً واغتيالاً وانتهاكاً مستمراً للأجواء اللبنانية، ويتقدّم إلى أماكن لم يستطع بفرقه الخمسة أن يصلها خلال 72 يوماً من الحرب، كما يسعى لفرض واقع احتلالي جديد من خلال إطلاق اليد للمستوطنين لنصب خيامهم في أراضٍ لبنانية توسيعاً لحلم الاستيطان في لبنان.
وفيما تستمر مماحكات التفاوض لوقف النار على جبهة قطاع غزة، يستمر العدو بارتكاب مجازره المروّعة بحق المدنيين الفلسطينيين ويواصل عمليات التجريف للقضاء على ما تبقى من أبنية ومنشآت مدنية، وها هو يطلق العنان لآلته العسكرية لاجتياح الضفة الغربية في مسعى واضح لتوسيع الاستيطان فيها، ويستعد لتوسيع دائرة نشر قواته على الحدود الأردنية بذريعة الوقاية من خطر حصول انقلاب في الأردن وانتقال الحكم إلى “جهات معادية”، وقد أقدم على ذلك تلبية لنصيحة علنية أسداها دونالد ترامب إلى حكومة الاحتلال، ما دفع وزير حرب العدو للإعلان عن مخطّط لتشكيل خمسة ألوية جديدة في الجيش لتلبية أمور ميدانية طارئة.
أما الخطر الأكبر في المستجدّ الميداني فتمثل في استباحة العدو للأرض السورية جواً وبحراً وبراً، بحيث دمّر كامل القدرات العسكرية للجيش السوري، فيما توغّل جنوده في محافظات الجنوب وتمركزوا على مرتفعات جبل الشيخ الاستراتيجية، ووصلت قواته إلى محاذاة الحدود اللبنانية على مسافة 12 كيلومتراً من خط دمشق – بيروت الدولي، وجرى كل ذلك دون أن تُطلق رصاصة واحدة، اللهم إلا من تصريحات خجولة من هنا وهناك لم تصل إلى الأسماع الإسرائيلية.
العبرة في كل ما سبق أن جدلية التاريخ التي تقرّ نجاعة فعل المقاومة في التصدّي والردع، تفيد في المقابل أن عدمية الوجود للمقاومة تقود حتماً إلى استفحال العدوان وتماديه، فلو أن المقاومة في لبنان تخلّت عن التزامها الأخلاقي بوقف إطلاق النار، وكذلك في قطاع غزة الذي ينتظر إقرار التسوية، وعادت إلى ممارسة حقها في التصدّي واستأنفت القتال، هل كان العدو ليجرؤ على الاستمرار في اعتداءاته؟! ولو كانت سوريا الجديدة حسمت قرارها وموقفها بالتصدّي للاستباحة الإسرائيلية لسيادتها وضرب قدراتها الحيوية والاستراتيجية، هل كان العدو ليجرؤ على التوغّل لحصار سوريا ولبنان معاً!؟.
قد يقول البعض إن ضريبة المقاومة في التجربة الإسرائيلية باهظة على مستوى البشر والحجر والاقتصاد.. للتذكير فقط فإن عدد ضحايا الثورة الفرنسية قدّر بحوالي 170 ألف قتيل في الحد الأدنى عدا عن الخسائر المادية الأخرى.. ألا تستحق الحرية الثمن الكبير؟!