منذ نشوء الكيان الصهيوني في منطقتنا وبزوغ فجر المقاومة في لبنان، والبيئة الحاضنة لهذه المقاومة تتعرّض لهجمات شرسة من الداخل والخارج، بغية النيل من عزيمتها وثقتها لتمسكها بخطها الجهادي الذي آمنت به. ومع كل تلك المؤامرات التي حيكت عليها، وأمام هول الحروب والمجازر التي شنتها "إسرائيل" على لبنان وفلسطين، لم تَحيد بيئة المقاومة عن خياراتها.
يبدو أن هناك عدة عوامل لإيمان البيئة المقاومة بخياراتها في الدفاع عن الأرض والعرض والدين. وأهمها الوعي الثقافي والحسّ الوطني والوجدان العاطفي الملتصق بتضحيات شبانها الجسام ضد المحتل. لذلك كانت هذه البيئة على استعداد دائم لتقديم المزيد من الدعم ودفع الأثمان أيًا كانت العواقب، كي لا تقع تحت نير الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يرحم حتى الطفل الرضيع، حتى وصل الأمر ببعض العائلات أن تقدم أبناءها الشبان كلهم شهداء، بالإضافة إلى بيوتها وأرزاقها.
لقد مرّت بيئة المقاومة بصعاب وتحدّيات كبيرة على مدى عقود من الصراع ضد "إسرائيل"، لكنّ الحرب الأخيرة التي عصفت بلبنان، في أواخر أيلول من العام 2024 وما سبقها بأشهر، كانت أشدها وقعًا وإيلامًا. ومع مشاهد الدمار الممنهج للمباني وارتكاب العدو لأفظع المجازر في لبنان وقطاع غزة، ومع عملية تفجيرات أجهزة البايجر واللاسلكي وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى من المقاومين، واغتيال عدد من القادة الشهداء في محور المقاومة، وعلى رأسهم سيد شهداء المحور الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، تخطّت هذه البيئة كل هذه الحرب النفسية التي شنّها العدو عليها.
مع ذلك لم تَسلَم هذه البيئة بعد الحرب من الفتن، إذ استنفرت "إسرائيل" أدواتها كافة من أجل زرع الشقاق داخل البيئة نفسها ومع محيطها، فعمَدَت إلى بثّ الرعب والخوف في نفوس شرائحها التي تخطّت بامتداداتها مختلف الطوائف. إذ صوّر العدو أن محور المقاومة تلقى ضربات موجعة بإغتيال السيد نصرالله ورئيس حماس يحيى السنوار وقبله إسماعيل هنية، وكذلك بسقوط نظام الأسد في سوريا، ما أدى الى انهياره. كما روّج العدو لفكرة أن حزب الله تعرّض لضربة عسكرية أفقدته 70% من قدرته وهو في حال احتضار، وأن إيران تخلت عن حلفائها. هذا في وقت؛ تناست فيه "إسرائيل" أنه على مدى شهرين من المعارك في جنوب لبنان عجز جيشها- الجيش الأقوى في الشرق الأوسط- من احتلال غالبية قرى الحافة الأمامية وأُجبِر على وقف الحرب تحت ضربات المقاومين.
هذه المواقف المشرّفة والثابتة لبيئة المقاومة شكّلت صدمة لكيان العدو لجهة دعمها غير المحدود للمقاومة، خاصة تلك التصريحات التي أطلقها عوائل الشهداء والجرحى من على أنقاض البيوت المدمّرة جراء مجازره الوحشية، أو تلك التي أتت لتفضح فشله الذريع في تحقيق أهدافه العسكرية.
الأخطر في ما تقدّم، أنه في خضم الأزمات السياسية والاجتماعية التي عصفت بلبنان بعد الحرب، أخذ فريق من اللبنانيين يتعاطى مع بيئة المقاومة ومناصريها وكأنّهم مهزومون أو خارج الحسابات الوطنية، وهذه نظرة خاطئة مدفوعة بحسابات آنية أو ضغوط خارجية. إذ إن هذه البيئة، والتي شكلت على مدى عقود ركنًا أساسيًا من معادلة الاستقرار والصمود الوطني، ما تزال تمتلك من القوة والفعالية ما يكفي لقلب الطاولة على كل من يخطئ في تقدير مكانتها.
وبناءً عليه، المطلوب اليوم هو التخلي عن هذه النظرة القاصرة إلى بيئة المقاومة وعدم التعامل معها بعقلية الاستضعاف والاستخفاف والاستهداف أو التعاطي معها طرفًا مهزومًا؛ لأن ذلك لا يعبر إلا عن قصر نظر سياسي، بل يُظهر فشلًا في قراءة موازين القوى. وهذا رهان خاسر لن يخدم إلا مصالح من يسعى إلى زعزعة استقرار البلاد؛ لأن بيئة المقاومة ليست بمعزل عن الأزمات الوطنية، لكنها كانت وستبقى جزءًا من الحل، وليس المشكلة.
أخيرًا، لا بُدّ من العمل على بناء شراكة وطنية حقيقية تقوم على احترام الأطراف كافة ودورها في حماية لبنان، وبالخصوص البيئة الحاضنة للمقاومة التي قدمت من التضحيات ما يفوق الخيال وما تزالت تقدم، فأهلها أشرف الناس والمطلوب إنصافهم وطنيًا. كما يجب أن يعلم الجميع أن بيئة المقاومة ليست مجرد جمهور داعم لمشروع سياسي أو عسكري، بل هي امتداد اجتماعي وثقافي عميق الجذور في لبنان، ومن دونه لا مكان للبنان بين الأوطان.