إن كان مجتمع المقاومة، خلال الحرب، قد أذهل العالم كلّه بما أظهره من مستوى عالٍ من الصبر والصمود والمقدرة على البذل والفداء، فحاله وهو يلملم جراح المعركة وأثارها مذهلٌ أكثر.
إذ هناك مشاهد الوفاء والوعي المتقدّم تتفوّق على كلّ ما يمكن للكلمات تصويره من نقاء القلوب ورقيّ العقول ودقّة البصائر، والحياء. ونحن لا نتحدّث هنا عن جمع حالات فردية أثبتت في أشدّ الصعاب ولاءها ووفاءها ومتانة خياراتها؛ بل عن مجتمع متكامل حافظ بكلّه على أعلى مستويات الولاء والوفاء والتمسّك بالخيارات، بالرغم من ريح الوجع العاتية التي عصفت به.
لقد واجه مجتمع المقاومة- وما يزال- لا آلة العدوان فقط، بل كلّ آثار الحرب من فقد ودمار وتعب، بصبر مذهل وببراعة لافتة في المحافظة على الثوابت مهما كانت الأثمان. ولعل مسألة التعويضات ومسح الأضرار هي خير ما يحكي عن روح مجتمع المقاومة، وعن طبيعته.. وذلك ليس غريبًا، فالمجتمع الباذل دمه وأغلى ما عنده، لن يقف لحظة ليتحسّر عند إحصاء الخسائر المادية مهما عزّت عليه وارتفعت قيمتها.. والمجتمع الوفي لدمِ أبنائه وأعزّته، وعلى رأسهم قائده سيّد شهداء الأمّة السيد حسن نصر الله، لا ينسى سكب كلمات الشكر والمحبّة على فرق المسح لتقدير الأضرار العاملة بجهد في حفظ أمانة السيّد..
منذ الأيام الأولى لوقف إطلاق النار؛ وما إن بدأت وتيرة الحياة بالعودة إلى المناطق والأحياء التي استهدفها العدوان طوال الحرب، انطلقت جهود الكشف عن الأضرار وتقدير قيمة التعويضات اللازمة لاصلاحها ولا سيّما في البيوت، سواء تلك التي تضرّرت بشكل جزئي أم دُمّرت بالكامل. وبعدها بوقت قياسي، بدأنا نسمع من الناس عن التعويضات التي يصرفها حزب الله لكل بيت تضرّر أو تهدّم.. وهنا، يمكن للناظر أن يرى بأمّ العين نوع الصلة التي تجمع بين الحزب المؤسّسة التي تحفظ الناس "بأشفار عيونها" ومن دون مِنّة، وبين الناس الذين يبادلونه الوفاء بالوفاء، والصون بالشكر.. في الشارع، في مراكز العمل، في المقاهي، في الأسواق وفي البيوت، ستسمع حديثًا عن "التعويضات"، وستلمح بين سطوره مقدارًا عاليًا من الحياء الجميل ومن التقدير الكبير للحزب الذي يتولى اليوم بلسمة الجراح؛ فيما ما تزال جثامين شهدائه في العراء..
كما في أرض الواقع، كذلك عبر منصات التواصل، ينهمك الناشطون في نقل مشاهداتهم في موضوع مسح الأضرار والتعويضات.. بعضهم يصوّر الشيكات التي صُرفت بحسب تكلفة إصلاح الأضرار الناجمة عن العدوان مهما كانت بسيطة: من زجاج مكسور إلى طلاء حائط محترق.. ومن فجوات في مواد عزل الأسطح إلى التمزقات في أقمشة الستائر والأثاث.. هذا فضلًا عن الأضرار الأكثر تكلفة طبعًا.. فرق الكشف تجول على البيوت، تسأل أصحابها عن كلّ ضرر ألمّ بالبيت أو بآثاثه بسبب الحرب، تسجلّه وتحوّله إلى ملف يُدرس وتقدّر تكلفة إصلاح كلّ ضرر مسجّل ثم تضع رقمًا يتناسب مع قيمة الإصلاح.. وتستقبل بعض العائلات فريق المسح لا ليكشف عن الأرار والخسائر؛ إنّما لإيصال رسائل الشكر والتقدير إلى القيادة الحريصة الأمينة على "أشرف الناس".
في الحقيقة، يرفض بعضهم تسجيل أيّ ضرر؛ حيث يتكفّل بالإصلاحات على حسابه الشخصيّ في تعبير عن التقدير والرّغبة بتخفيف العبء ولو قليلًا عن كاهل حاملي أمانة السيّد. وعلى سبيل المشاركة في تحمّل واجب لملمة أثار الحرب ولو بالقليل.. "ما بدنا شي المهم أنتو بخير"، "كفّيتو ووفّيتو فداكن.. غيرنا بذل دم كتير علينا نصلّح عحسابنا؟!"، "نحنا منصلّح ما تهكلو الهم يمكن غيرنا أحوج".. هذه العبارات وغيرها، تنطق بروح مجتمع المقاومة الصابر والمضحّي والفادي، وهي ليست غريبة عليه، نكرّر، هل يأبه الباذل دمه ببذل كلّ ما دون الدم؟! لا والله.
قِيمٌ إنسانية عالية برزت، بشكل واضح، في مجتمعنا بعد الحرب: الإيثار أجملها. معظم المتضرّرين يسألون عمّن تضرّر أكثر منهم ويؤثرونه على أنفسهم، وشهدنا حالات كثيرة يعرض فيها من استلم مبلغ التعويض أن يتقاسمه مع متضرّر آخر لمّا يحن دوره بعد. وكذلك شهدنا على أشخاص يتحدّثون عن السخاء في تقدير قيمة التعويض؛ حيث تفوق ولو بقليل التكلفة التي يحتاجون إليها لاصلاح الأضرار التي لحقت بهم.
"فدا المقاومة"، هاتان الكلمتان تتخذان بعد سكوت الغارات معنى مختلفًا.. لنقل تصبحان تعبيرًا عن ارتباط الناس بالمقاومة، وإن كان الثمن الذين دفعوه جراء خيارهم الشريف هذا هو الوقوف فوق ركام منازلهم أو قرب بقايا "شقا أعمارهم" من دون حسرة، بل بكل اعتزاز وحياء..
يحمّل الناس فرق مسح الأضرار سرّ صمودهم، وسرّ مقدرتهم على العطاء وعلى الفداء. هؤلاء الذين سمّاهم قائدهم الشهيد في خطاب النصر الالهي بأشرف الماس وأطهر الناس وأكرم الناس، أثبتوا مرّة جديدة للعالم كلّه أنّهم مجتمع ينفق في سبيل الحق كلّ ما يحبّ، ويفتخر بكونه استطاع إلى هذا البذل سبيلا.