أوراق ثقافية

رحيل الشاعر محمد إبراهيم أبو سنّة…الصوت الرومانتيكي في الشعر المصري الحديث

post-img

«حين فقدنا صدق القلب

حين تعلمنا أن نتقن أدوارا عدة

فى فصل واحد حين أقمنا من أنفسنا آلهة أخرى

وعبدنا آلهة شوهاء

حين أجبنا الغرقى بالضحكات

حين جلسنا نصخب فى أعراس الجن

حين أجاب الواحد منا

«ما دمت بخير

فليغرق هذا العالم طوفان»

كنا نحن الأعداء

كنا غزاة مدينتنا» (من قصيدة.. نحن غزاة مدينتنا 1966)

في هدوء يرحل الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنّة (15 مارس/آذار 1937 ـ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) عن عالمنا، بعد رحلة طويلة مع الشعر تجاوزت النصف قرن، تطوّر فيها الرجل من الشعر العمودي إلى شعر التفعيلة، الذي استقر في مقامه، دون أن يغادره..

ورغم الانتماء إلى جيل الستينيات الفكري والثقافي، وما كان يحمله ذلك الجيل من رؤى وأحلام شديدة الاختلاف عما نعيشه اليوم ـ بغض النظر عن طموحها أو قصورها، وبالضرورة نتائجها ـ إلا أن الرجل كان دومًا ينتصر لحالة قائمة من الرومانتيكية، دون التورط في أيديولوجيات وحروب تلك الفترة، التي طالما شوّهت الأدب والفن بصفة عامة، لما كانت تحمله من أفكار وخطابات مباشرة، تقترب كثيرًا من الكتابات الدعائية الفجة، وهو ما نجده عند العديد من الأسماء الكبيرة ــ أو تم تكبيرها عمدًا ــ في الأدب المصري، حيث إن قرأتها اليوم، لن تثير سوى السخرية والرثاء. هنا لمحة سريعة عن الرجل وأفكاره، سواء عن الشعر أو بعض القضايا التي كانت تشغله، من خلال عدة لقاءات وحوارات أجراها في صحف ومواقع إلكترونية مختلفة..

البدايات

كانت مرحلة التفتّح الشعري في نهاية الخمسينيات. آنذاك كانت تظلّل الواقع مقولات وأفكار ورؤى قوميّة، ومشاريع العدالة الاجتماعية، والتطلّع إلى المجتمع الحديث، والخروج من العصر التقليدي إلى الحداثة، إضافة إلى التفاعل مع الواقع الإنساني على مستوى الفكر والإبداع. كان الأبرز آنذاك المشروع القومي، الذي يعتمد على الوحدة العربية والعدالة الاجتماعية، أما اجتماعيا فالأهم كان تحديث وسائل هذا المجتمع من خلال التعليم والثقافة والإعلام.

الشعر

يقول محمد إبراهيم أبو سنة.. لا أومن بالتعريف، وإنما أومن بالتعرّف، فلا يوجد مفهوم جامد للشعر. فالقصيدة، كل قصيدة تعبير عن مفهوم جديد وعن موقف جديد، وعن دهشة جديدة أمام الوجود. الشعر.. ثورة على اللغة لأنه بناء غير مألوف وحين يكون تقليديًا لا يكون شعرًا حقيقيًا أو عظيمًا، الشعر الحقيقى هو الذي يبدع لغة جديدة وصورًا وخيالًا وإيقاعًا وتجربة جديدة، لهذا فالشعر الحديث تجربة مبدعة لأنها تمردت على القديم، واستطاعت أن تخلق أفقًا ومجالًا من الحداثة جعل هذه المدرسة من أهم المدارس التي عرفها الأدب العربي في القرن العشرين.

التجديد

حركة التجديد برمتها تعاني مأزقا حقيقيا، ذلك أن حركات التجديد في أي مرحلة من المراحل، إنما تعبر عن فيضان هذه المرحلة بالحيوية واستشرافها إلى التعبير عن واقع جديد. وعلى صعيد الوطن العربي فإننا نعاني من تراجع هائل، تراجع على كل المستويات السياسية والاجتماعية والنفسية، فالعزلة طاحنة على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، وحركات التجديد الآن هي محاولة للإبقاء على صورة التقدم، دون أن تحرز تقدما حقيقيا. إن الشعر العربي موقفه، هو موقف الإنسان العربي الآن، محاصر، وما كانت مهمته الأساسية هي البحث عن أفضل الوسائل للمحافظة على الذات قبل التقدم للأمام. إننا نعاني من التراجع، وحركات التجديد لا تنفصل عن حركة الإنسان على الإطلاق.

الشعر الآن

هناك قصور في الحركة الشعرية وتراجع مخيف بها على المستوى الإعلامي والإبداعي والتواصل بين الشعراء، للأسف الشديد لم يتذكر الشعراء منذ السبعينيات وحتى الآن أن مهمتهم الأولى هي الارتقاء بهذا الفن، ولكن ما حدث أنهم انخرطوا في حرب أهلية شعرية حتى الآن وهذا أطاح بكثير من إنجازات الحركة الشعرية، كما أن ثقافة بعض الشعراء الموجودين على الساحة الذين ينشرون ويملأون الأرض صخبًا هي ثقافة هزيلة إذ كل ما يهمهم هو إبراز ثقافتهم في وسائل الإعلام. ويضيف.. أنا مؤمن بأن كل مرحلة تظهر مواهب جديدة تقدم إبداعا شعريًا وهناك بالفعل شعراء جيدون في مجال قصيدة التفعيلة وإحياء ما يسمى بالكلاسيكية الجديدة.

النقد

المشكلة الآن هي أنّ النقد لا يتجه إلى القارئ، أو إلى الرأي العام، بل إلى الوسط الأكاديمي، والتركيز على الرسائل الجامعية، والمقرّرات الدراسية، والسبب الأساس أن كثيرًا من هذه الدراسات متشبعة بالمناهج النقدية الأجنبية مثل الأسلوبية والحداثية، وما بعد الحداثية (البنيوية) و(السيميائية)، ما أدى إلى غموض الخطاب النقدي، بل إن هذا الخطاب نافس النموذج الشعري. ومن ناحية أخرى يرى أبو سنة.. أن حركة النقد الأدبي انحرفت إلى مسارات كثيرة ابتداء من السبعينيات ـ لاحظ الموقف من السبعينيين ـ

إذ واجهت الحياة الثقافية نوعًا من التمزق ومواجهة الأجيال لبعضها وفقدان سلطة النقد، ذلك كله أنتج لنا خريطة ثقافية يغلب عليها العبث. كذلك أدّت أجهزة الإعلام دورًا واضحًا في قلب الموازين وتوزيع الأضواء والظلال بطريقة تعتمد على المصالح الشخصية والمجاملات. ولا شك في أن السلطة السياسية أيضًا، في مراحل مختلفة، كانت لها اختيارات في تدعيم أركانها من خلال الرضا والسخط والتقريب، والإبعاد، والمنح والمنع. أما الحركة النقدية فعانت في الفترة الأخيرة من غياب فكرة القيمة لتسود لغة المصالح والمجاملات، فافتقدنا صحوة الضمير الأدبي وأصبحنا أمام واقع ثقافي يحمل تشوهات الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي كافة. لكني أؤمن بأن الصدق مع النفس هو الذي يعصم حركة الإبداع من الانحدار عن هاوية الزيف والضعف.

كأنما أتوا من الخيال

«كأنما أتوا من الخيال/ من شرفة التاريخ والمآذن الطوال/ من غابة الأحلام في الصبا ولوعة المحال/ كأنما أتوا لينفخوا في الصور كي تقوم للقيامة النساء والرجال/ يحررون مصر من قيودها الثقال». هكذا رأى الشاعر الراحل ثورة 25 يناير/كانون الثاني، التي يراها مقارنة بانقلاب يوليو/تموز 1952 ـ المُنتمي إليه روحًا وفكرًا ـ قائلًا.. «ثورة يوليو أفرزت عصرًا بأكمله وأحداثًا هائلة، ولكن ثورة 25 يناير أفرزت عنصرًا واحدًا هو.. الأمل».

بيبلوغرافيا

محمد إبراهيم أبو سنَّة من مواليد عام 1937 في إحدى قرى محافظة الجيزة. حصل على ليسانس الآداب، كلية الدراسات العربية، جامعة الأزهر عام 1964. نشر أولى قصائده عام 1959 في جريدة «المساء»، وكانت بعنوان «القارة الغاضبة». وأصدر ديوانه الأول «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» عام 1965. عمل محررًا سياسيًا في الهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج في إذاعة جمهورية مصر العربية عام 1976 (إذاعة البرنامج الثاني).

عضو لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة منذ العام 1980، عضو مؤسس في اتحاد الكتاب المصريين، عضو اللجنة المركزية للنصوص الغنائية في اتحاد الإذاعة والتلفزيون، وفي العام 1995 شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ونائبًا لرئيس الإذاعة المصرية.

أصدر 12 ديوانًا شعريًا، منها.. «قلبي وغازلة الثوب الأزرق»، «البحر موعدنا»، «رقصات نيلية»، «مرايا النهار البعيد»، «موسيقى الأحلام»، «تعالي إلى نزهة في الربيع»، «أجراس المساء»، «رماد الأسئلة الخضراء»، «شجر الكلام»، و»تأملات في المدن الحجرية»، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين.. «حصار القلعة» و»حمزة العرب». وكذا عدة مؤلفات نقدية، منها.. «ومضات من القديم والجديد»، «تأملات نقدية في الحديقة الشعرية»، «أصوات وأصداء»، «فلسفة المثل الشعبي»، «تجارب نقدية وقضايا أدبية»، «ربيع الكلمات» و»دراسات في الشعر العربي».

الجوائز.. الزمالة الشرفية من جامعة أيوا الأمريكية 1980، جائزة الدولة التشجيعية في الشعر 1984، جائزة كفافيس 1990، جائزة الدولة للتفوق 2001، جائزة جامعة شتيرن في ألمانيا عن كتاب «العرب والأدب المهاجر» 2008، جائزة الدولة التقديرية 2011، جائزة سلطان العويس 2013، جائزة ملتقى الشعر العربي 2016، جائزة أحمد شوقي الدولية من النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر 2021، وجائزة النيل في العام 2024.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد