علي رعد ـ العهد
لم يكن الكيان "الإسرائيلي" المصطنع في أيّ وقت من الأوقات منذ عام 1948 خاضعًا للقوانين التاريخية التي تمرّ بها الدول الطبيعية في مسار تطورها، خاصة في مجال الأبحاث والتكنولوجيا، حيث بدأ من النقطة التي انتهى إليها الآخرون، وبدعم مطلق من "الحضارة الغربية". إنّ العدوان "الإسرائيلي" على غزّة ولبنان كشف إلى حدّ كبير عن مدى تطور آلة القتل والإجرام لدى العدو، وتحديداً من خلال استخدام أنظمة الذكاء الاصطناعي لممارسة المزيد من الجرائم.
دأبت "إسرائيل" وخاصة في السنوات الأخيرة على توظيف الذكاء الاصطناعي في حروبها العدوانية، وقد ظهر هذا الأمر بشكل جلي بعد عملية "طوفان الأقصى" البطولية، حيث لا تزال تشنّ حملة إبادة جماعية ضدّ الفلسطينين في غزّة، مستندةً على أنظمة الذكاء الاصطناعي التي ادّعت أنّها تمكّنت من خلالها من تحديد آلاف الأهداف العسكرية، بيد أنّ هذا الادعاء لم يصمد ولو للحظة واحدة أمام حجم الجرائم التي ارتكبتها بحق الفلسطينين وخاصة لناحية عدد الضحايا من النساء والأطفال والشيوخ. وفي هذا السياق، يُشير "ستيفن فيلدشتاين" من مؤسسة "كارنيغي"، وهو باحث في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات الحرب، إلى أنّ الأحداث الجارية في غزة تمثل بداية تحوّل أوسع في أساليب خوض الحروب. ويرى القادة العسكريون "الإسرائيليون" أنّ الذكاء الاصطناعي هو عنصر أساسي في تعزيز القوة العسكرية ومضاعفتها، حيث ساعد جيش الاحتلال في استخدام الطائرات بدون طيار ذاتية التشغيل لجمع بيانات المراقبة، وتحديد الأهداف، وتسهيل الخدمات اللوجستية في أثناء الحروب.
ووفقًا للتقارير "الإسرائيلية" والغربية، استخدمت "إسرائيل" الذكاء الاصطناعي لأول مرة خلال عدوانها على غزة في عام 2021. وقد قام جيش الاحتلال بالتسويق لتقنيات الذكاء الاصطناعي التي تُستخدم في القاعدة الجوية "الإسرائيلية" "نيفاتيم" ومقر وحدة الاستخبارات "الإسرائيلية"، من خلال محاضرة ألقاها مسؤول وحدة 8200 في جامعة "تل أبيب". من هنا نفهم أهمية الضربات العديدة التي وجّهتها المقاومة في لبنان لهذين الموقعين الحساسين، وقد سبق أيضاً أن استهدفت الجمهورية الإسلامية في إيران نفس الموقعين العسكريين.
لا تقتصر آلة القتل "الإسرائيلية" على الأساليب التقليدية وحسب، بل أصبحت متكاملة مع أنظمة الذكاء الاصطناعي. وقد سبق أن نُشرت تقارير تتحدث عن هذه الأنظمة مثل "لافندر" (Lavender) الذي يُحلل البيانات التي تمّ جمعها عن معظم السكان من خلال نظام مراقبة جماعية، ليقوم بعدها بتصنيف احتمالية أن يكون كل شخص بعينه ناشطًا في الجناح العسكري لحركة "حماس" أو حركة "الجهاد الإسلامي" في فلسطين. وتقوم الآلة بتصنيف كل شخص في غزة، وتمنحه نسبة مئوية تترواح من واحد إلى مئة، في محاولة لمعرفة مدى احتمال أن يكون "متشددًا". وتشير المصادر الاستخباراتية إلى أنّ نظام "لافندر" يتعلّم التعرّف على خصائص عناصر "حماس" و"الجهاد الإسلامي" المعروفين، والذين تم تغذية الآلة بمعلوماتهم كبيانات تدريبية، ثم تحديد هذه الخصائص نفسها بين عامة السكان. وسيُمنح الفرد الذي يتبين أن لديه العديد من السمات المختلفة التي تدينه، على تصنيف عالٍ، وبالتالي يصبح تلقائيًا هدفًا محتملًا للاغتيال. يوجد أيضاً أنظمة أخرى مثل "أين أبي" (Where’s Daddy) و"غوسبل" (Gospel)، فالأول يستخدم في عمليات الرصد وإعطاء أوامر الاستهداف، والثاني يُقدّم توصيات بمهاجمة أهداف معينة، مثل المنازل الخاصة للعناصر المشتبه بهم، كما يرصد البنى التحتية والمنشآت التي يستخدمها الفلسطينيون. لقد كان لـ "لافندر" دور محوري في القصف غير المسبوق الذي تعرّض له الفلسطينيون، خصوصًا في المراحل الأولى من الحرب، حيث أشارت المصادر إلى أنّ تأثيرها في عمليات الجيش كان كبيرًا لدرجة أنهم اعتبروا مخرجات آلة الذكاء الاصطناعي كأنها قرارات بشرية.
وفي هذا المضمار يقول رئيس هيئة أركان الجيش "الإسرائيلي" السابق "أفيف كوخافي"، إنّ هذه الآلة قادرة على إنتاج كميات ضخمة من البيانات بكفاءة تفوق أي إنسان، وتحويلها إلى أهداف للهجوم". ففي الحرب التي استمرت 11 يومًا بين "إسرائيل" وحماس في أيار عام 2021، كانت الآلة تنتج 100 هدف يوميًا. سابقًا، كنا نحدد 50 هدفًا في غزة سنويًا. أمّا الآن، فإنّ هذه الآلة تنتج 100 هدف في يوم واحد، ومع تنفيذ هجمات على نصف هذه الأهداف.
على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه جيش الاحتلال في استخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجال المراقبة الجماعية لسكان غزة ومحاولة توقع سلوكيات المقاتلين، فإن عملية طوفان الأقصى وضعت "إسرائيل" في أزمة وجودية على الصعيد الأمني، وقد أدّى ذلك إلى تشويه سمعة وحدة 8200 المعروفة كأهم الأجهزة الاستخباراتية لدى "إسرائيل"، حيث وُجهت إليها اتهامات بالاعتماد المفرط على التكنولوجيا، بعدما تبنّت جمع المعلومات الاستخباراتية بالأدوات الذكية بدلاً من الأساليب الكلاسيكية. وقد ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" أن كبار القادة العسكريين "الإسرائيليين" أشاروا إلى أنّ التركيز على التكنولوجيا قد ساهم في تآكل ثقافة التحذير في وحدة 8200، مما أدّى في النهاية إلى مباغتة "إسرائيل" بالهجوم. وفي ظل الإخفاقات الاستخباراتية التي مني بها جيش الاحتلال، نُقل عن "سارييل" قوله لزملائه بأنّ عملية 7 أكتوبر ستظلّ تطارده حتى أيامه الأخيرة: "أتحمل المسؤولية بكل ما للكلمة من معنى"."لقد هُزمنا، لقد هُزمت".
على الرغم من الطفرة الهائلة التي حققتها "إسرائيل" في تطوير منظومتها الذكية، فإنّها تواجه تحديات في مجال التحليلات والاستنتاجات، إذ يقول أحد المطلعين على هذه الأنظمة، إن المحللين في وحدة 8200 يجدون صعوبة في التمييز بين المحادثات العادية والمشفّرة. فعلى سبيل المثال، يستخدم نشطاء حماس كلمة "بطيخ" كرمز للقنبلة، وهو ما لم يتمكن النظام من فهمه بشكل صحيح، إذ لم يستطع التمييز بين ما إذا كانت الكلمة مُشفّرة أو تعني شيئًا آخر، لذلك، إنّ هذه التفاصيل ساهمت في إرباك النظام. بالإضافة إلى ذلك، تنقل المصادر نفسها بأن تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تعالج اللغة العربية قد فشلت في فهم الكلمات والعبارات العامية الرئيسية بشكل دقيق.
لذا، يمكن القول، إنّ المقاومة الفلسطينية تمكّنت من التكيف مع أنظمة الذكاء الاصطناعي "الإسرائيلية" وترويضها، وقد تجلى ذلك بوضوح من خلال عملية "طوفان الأقصى" البطولية. وحتى الآن، تواصل "إسرائيل" ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية مستخدمة أحدث آلات القتل، دون أن تحقق أيًا من أهدافها، والتي تتمثل في إجبار المقاومة الفلسطينية على الاستسلام وإعادة الأسرى "الإسرائيليين" إلى مستوطناتهم من دون قيد أو شرط.
ختامًا، إنّ صمود المقاومة اللبنانية والفلسطينية أمام أعتى وأحدث آلات التوحش "الإسرائيلية" يُمثل شعاع أمل للشعوب المُستضعفة من جهة، وحجة على العالم والأمة الإسلامية من جهة أخرى. وبالرغم من استخدام "إسرائيل" أسلحة مجهزة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في غزّة ولبنان بطريقة انتهكت فيها حقوق الإنسان وكلّ الأعراف الدولية، فإنّها في المقابل خسرت سرديتها وشرعيتها أمام الرأي العام العالمي، وكرّست صورة نمطية عن إجرامها في كل أنحاء العالم.