علي عوباني
افتتح قصر بعبدا أبوابه المقفلة بصدأ الفراغ والتعطيل منذ سنتين ونيف، ليعتلي الجنرال جوزاف عون كرسي الرئاسة، في بداية مرحلة وعهد جديدين لست سنوات قادمة، ولتنتقل بعد ذلك الأنظار إلى المحطة الدستورية التالية، ويبرز السؤال الآتي: من سيكلف رئيسًا للحكومة الأولى في العهد الرئاسي الجديد؟
لم يختلف مشهد جلسة انتخاب الرئيس من حيث الشكل عن مشاهد جلسات مجلس النواب السابقة، إذ طغى السجال الدستوري عليها، وبدا أن العقدة الدستورية المتمثلة بانتخاب موظف من الفئة الأولى لم يستقل من مهامه بحسب المادة 49 من الدستور، عقبة أمام وصول قائد الجيش إلى عتبة الرئاسة، ما لم يحز على أصوات 86 نائبًا، وهي أكثرية الثلثين المطلوبة لوصوله ولاعتبار الدستور معدل ضمنًا، باعتبار أن التعديل يتطلب أكثرية مماثلة.
شد الحبال الدستوري هذا، انتهى بعد تشاور استمر لنحو الساعتين بين الجلسة الأولى والثانية، بالتوافق الذي كان قد دعا إليه رئيس مجلس النواب نبيه بري منذ أول جلسة انتخابية عقدت في 29 أيلول/سبتمبر 2022، وأفضى في نهاية المطاف إلى انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية.
ومع انتهاء الشغور، وتولي العماد جوزاف عون سدة الرئاسة، وسط محاولات كل طرف تجيير حصيلة المعركة الانتخابية في رصيده السياسي وتحديد الرابح والخاسر فيها، ثمة دروس وعبر ينبغي استخلاصها مع بداية المرحلة السياسية الجديدة القادمة:
الدرس الأول، بلغة الأرقام، لم يتغير توزيع الأصوات ما بين الجلسة الأولى والثانية في ما يتعلق بالأوراق الملغاة (5) وصوتين لشبلي ملاط، و14 صوتاً لـ (لسيادة والدستور)، باستثناء متغير وحيد بين الجلستين عبر عنه الرقم 28 وهي أصوات انتقلت من ورقة بيضاء في الجلسة الأولى (عددها 37) لتصبح 9 أوراق في الجلسة الثانية، وكانت هذه الأصوات أصوات الثنائي الوطني التي عبّدت الطريق أمام الرئيس للوصول إلى قصر بعبدا. وأوصلت بالأدوات السياسية رسالة واضحة، مفادها أنها شريك أساسي في بناء هذا البلد، ضمن الأطر الدستورية وتحت سقف اتفاق الطائف، كما وعد الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم، وبذلك ذهبت أدراج الرياح كل التحليلات التي سعت لتصوير المقاومة كأنها انتهت بعد الحرب، وأن الفرصة باتت سانحة للانقضاض عليها في الداخل، والقضاء على تمثيلها السياسي النيابي والوزاري.
الدرس الثاني: ظهر جليًا أنه لا يمكن لأي طائفة أو حزب مهما كبر أو عظم شأنه أن يحكم لبنان ويشطب الآخرين من المعادلة مهما تغيرت المعطيات الإقليمية والدولية لصالح هذا الطرف أو ذاك، فالدستور واضح في هذا السياق ولا يقبل التأويل أو التفسير، ومن يحاول اللعب بنار الفرقة على حساب العيش المشترك سيحرق أصابعه، وهذا بالتحديد ما حصل مع رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي جاهر علنًا في ذروة الحرب "الإسرائيلية" على لبنان بالدعوة لانتخاب رئيس حتى من دون النواب الشيعة.
هذا النهج الإقصائي كان الخاسر الأول في جلسة انتخاب الرئيس، لصالح نهج وفاقي حريص على العيش المشترك، وفق الدستور، وهو مارس ذلك وعبّر عن قناعاته، فكان حريصًا على توفير التوافق الوطني العريض الذي أمن وصول العماد جوزاف عون إلى كرسي بعبدا، وأوصل بذلك رسائله الواضحة لمن يهمه الأمر ولمن ظنّ أن بإمكانه شطب خصومه من المعادلة السياسية أو الاستقواء بالخارج لاستضعافهم.
الدرس الثالث، ثبت للقاصي والداني أن بإمكان الخارج أن يملي ما يشاء على مدعي السيادة وأن يوقفهم في الصف ويؤنبهم ويهددهم، ليذعنوا صاغرين أمامه، لكن هذا الخارج ذاته لا يستطيع أن يقفز فوق الثنائي الوطني المقاوم الذي أثبت مجددًا في أول استحقاق سياسي بعد الحرب أنه طرف وازن في البلد وكلمته مسموعة ومطاعة، وأنه وجهة ومقصد الوفود الدولية، يفاوض كبار لاعبيها من الند للند، وعنده مربط الفرس والحل.
الدرس الرابع، تأكد للجميع مجددًا أن الوطن يبنى بالشراكة الوطنية لا بالإلغاء والإقصاء، وإلا فإننا سننتقل من محطة فراغ دستوري إلى أخرى كما كان يحصل في عهود سابقة، لذا فالأهم الآن تجيير هذا التوافق حول الرئيس المنتخب إلى توافق مماثل حول الرئيس الذي سيكلف بتشكيل الحكومة، منعًا لهدر الوقت في مناكفات سياسية لا طائل منها، فالمطلوب اليوم تعاون الجميع للبناء على الإيجابية التي انتهت إليها جلسة انتخاب الرئيس للنهوض بالوطن من أزماته.
الدرس الخامس، أظهر الاستحقاق الرئاسي من جديد مجافاة شعارات السياديين للواقع، ففي غمرة حضور سفراء العالم أجمع جلسة الانتخاب، وما سبقها مما جرى في الكواليس بعلم الجميع من إشراف مبعوثين دوليين وعرب، على إدارة كتل نيابية، وتوزيع شنط أموال مرّت من مطار بيروت دون تفتيش، رأينا حضور احتلال دول العالم للبنان ولم نرَ الاحتلال الإيراني الذي يجتر بعض الأفرقاء الداخليين الحديث عنه في كل مناسبة، لإخفاء ارتهانهم للوصاية الخارجية الأميركية وسواها.
في محصلة جلسة انتخاب الرئيس، وفي تقييم الرابح والخاسر الأكبر، يبدو جليًا أن لبنان هو الرابح الأكبر من خلال التوافق الحاصل، والذي لا يجوز تبديده في زواريب ومتاهات داخلية. أما الخاسر الأكبر من هذه المعركة فهو حزب "القوات اللبنانية" الذي لطالما حاول تعويم نفسه متوهماً أنه الكتلة الأكبر مسيحيًا، فظهر في حمأة استحقاق رئاسي وطني، يخص المسيحيين بالدرجة الاولى بمظهر المجبر رغمًا عنه على الالتحاق بآخر مقعد ببوسطة تأييد جوزاف عون، بعد "الكتائب" وقوى مسيحية أخرى. وبينما كان النائب وليد جنبلاط يحجز المقعد الأمامي، بفضل "أنتيناته"، كان جعجع يحاول من تحت الطاولة قلب الدفة، علّه يحظى بصفة "فخامة الرئيس"، مثبتًا من جديد عقم خياراته وفشل رهاناته السياسية، لتبقى الرئاسة حلمه الضائع.