لم يعمّر اليقين الذي ساد الإعلام اللبناني طويلًا، إذ أتى مشهد الاستشارات النيابية الملزمة يوم الإثنين الماضي ليخلط الأوراق ويُعيد الإعلام إلى تخبّطه المعتاد في الأحداث الكبيرة. لكن هذه المرّة كان التخبّط حادًّا إلى درجة الاعتراف به من وسائل الإعلام نفسها. أتى ذلك بعدما كان المشهد الإعلامي قد انقلب في الأسابيع الماضية، وخصوصًا على الشاشات التي اعتادت استضافة سياسيّين وناشطين يدورون في فلك الولايات المتّحدة، إضافة إلى سفراء دول في الفلك نفسه ومسؤولين أميركيّين، مع تغييب شبه تامّ للآراء المعارضة لهذا التوجّه، حتّى المستقلّة منها.
هكذا، بدأ نهار الاثنين وغالبية وسائل الإعلام من قنوات وإذاعات وصحف ومنصّات تبثّ أخبارًا تبشّر بتوقّع إعادة تكليف رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بغضّ النظر عن موقفها تأييدًا أو معارضةً أو حيادًا. وفتحت القنوات البثّ المباشر واستضافت المحلّلين في استديواتها ووضعت على شاشاتها الجداول لعدّ الأصوات، لكنّها أخذت فترات استراحة أكملت خلالها برمجتها العادية. لكن سرعان ما بدأت أحجار الدومينو تتساقط الواحدة تلو الأخرى، فتقلّبت مواقف كتل نيابية بين ليلة وضحاها، وازدادت الأصوات الممنوحة للقاضي نوّاف سلام حتّى وصل إلى العتبة التي سمحت بتكليفه تشكيل الحكومة الجديدة. المشهدية الجديدة غير المتوقّعة دفعت القنوات إلى الاعتراف بأنّ ما حصل لم يكن في حسبان حتّى خبراء الإحصاء، وبات الكلام عن تدخّلات خارجية على الهواء أكثر قبولًا، خصوصًا أنّ بعض النوّاب لم يخفِ التزامه بتعليمات خارجية في تصريحاته. ولعلّ كلام النائب وليد البعريني كان الأكثر فجاجةً في هذا الشأن.
مع ذلك، حرصت وسائل الإعلام على تصوير الرئيس المكلّف على أنّه المنقِذ المنتظَر، وكان لافتًا تحوّل عدد منها فجأة إلى معارضة ميقاتي، بعدما شكّلت نافذة علاقات إعلامية له في السنوات الأخيرة. أمّا القنوات فحرصت على الإضاءة على سيرة نواف سلام الحافلة، وأخذت أخبار الاستشارات الحيّز الأكبر في نشرات الأخبار الليلية. كما استعاد بعض القنوات والصحف محطّات من العهود السابقة، متعلّقة بتكليف رؤساء الحكومات، ولا سيّما مع سابقة عدم نيل الرئيس المكلّف صوت أيّ نائب شيعي، ما استدعى الذهاب برحلات في الذاكرة. وأُخذت بعض المنصّات برفض سلام استقلال طائرة خاصّة للعودة إلى لبنان على وجه السرعة، مفضّلًا انتظار طائرة تجارية تصل في اليوم التالي. كما أخذ بعض القنوات مداخلات من مواطنين في الشارع حول تمنيّاتهم من الرئيس المكلّف، أيًّا كان اسمه. وبرزت استضافة LBCI رئيس «التيّار الوطني الحرّ» جبران باسيل، وهي الثانية له على الشاشة المملوكة لبيار الضاهر في غضون أسبوع.
على مواقع التواصل الاجتماعي، كان الأمر مختلفًا بعض الشيء، ولا سيّما من ناحية الصورة الجامعة التي ظهرت على الإعلام. فقد حاول أنصار عدد من الأفرقاء تصوير تكليف سلام على أنّه إنجاز لهم، كلّ على حدة، بدءًا من «التغييريّين» مرورًا بـ«التيّار الوطني الحرّ» وصولًا إلى «القوّات اللبنانية». فقد اعتبر جمهور «التغييريّين» أنّ «ثورة 17 تشرين انتصرت»، رغم رأي بعضهم بعدم اكتمال الفرحة من دون تغيير رئيس مجلس النوّاب، بينما اعتبر أنصار «التيّار» أنّه كان أوّل طارحي اسم سلام قبل خمس سنوات، ومثلهم ادّعى مناصرو «القوّات». لكنّ معارضي «القوّات» كانوا لها بالمرصاد، فأظهروا تبدّل الموقف لديها في السنوات الأخيرة، إذ أيّدت سلام العام 2020 ثمّ عارضته العام 2022 على لسان رئيسها سمير جعجع الذي قال في حينه إنّه من المستحيل الإتيان بشخص بالكاد يأتي إلى لبنان، ثمّ أيّدته مجدّدًا اليوم. كما تعرّضت «القوّات» للسخرية بسبب ادّعائها الانتصار في كلّ مرّة رغم فشلها في إيصال المرشّح الذي تكون طرحته بدايةً، وتصوّر الأمر على أنّه «هزيمة لمحور المقاومة».
في سياق متّصل، جنّد مؤيّدو الرئيس السابق ميشال عون أنفسهم لفضح نفاق الإعلام، فباتوا يعلّقون على كلّ خبر يتناول الرئيس جوزيف عون ويقارنون صياغته بما كانت الحال عليه في العهد السابق. على سبيل المثال، كانت غالبية وسائل الإعلام تنفي سابقًا حقّ رئيس الجمهورية بتسمية عدد من الوزراء، بينما يستبق عدد منها اليوم الاستحقاق بالتأكيد على حقّه في ذلك. من جهة أخرى، وقف جمهور المقاومة في موقع المتفرّج، وبات يعلّق على الاستحقاقات السياسية من بعيد وكأنّ لا شأن له بما يقوم به فريق يعتبره خصمًا في السلطة. وهو ما يتطابق مع موقف «الثنائي الشيعي» الذي كان واضحًا باهتمامه بأولويّة وقف الاعتداءات الإسرائيلية وإعادة الإعمار. وانتقد بعضهم الرئيس المكلّف معتبرينه «تلميذ فؤاد السنيورة» و«شريكًا في اتّفاق 17 أيّار»، بينما انتقده من جهة أخرى بعض اليمين الانعزالي الذين اعتبروا سلام «يساريًّا» و«عرفاتيًّا».
الحصيلة أنّ مشهد «التوافق الوطني» الذي ظهر على غالبية الإعلام ــــ رغم تخبّطه ـــــ لم ينعكس افتراضيًا حيث المعارك المشتعلة الدائمة.