أوراق ثقافية

جودت فخر الدين الجنوب المفتوح على السماء

post-img

«غيوم رأتني أجوب السماء بعينيّ/ لم تكترث، ومضت نحو أهدافها/ غير أنّي تشرّبتها/ أو تشرّبتُ ظلًّا تساقط منها بلا هدفٍ/ وبنيت سماءً له في كلامي/ وفي خطواتي/ وفي وحشتي»: لا نجانب الصواب إن أطلقنا على قصيدة الشاعر اللبناني جودت فخر الدين «قصيدة هندسية»: إنها قصيدة مبتكَرة ومصمّمة تجمع بين هندستَين، واحدة في خارج القصيدة، وواحدة في داخلها لتتعامل مع الزمن والكائنات والأماكن من الجُرم الصغير حتى العالم الأكبر وتشكّله على مزاجها. في هندستها للمكان، تنطلق قصيدة فخر الدين من أكثر الأماكن حميميةً، كالمنزل الجنوبي الذي هدمته الطائرات في الحرب الأخيرة، لتعمل على إعادة تشكيل المحيط والغيم في البيئة الجنوبية المفتوحة على السماء والأفق، وتحتفي اللغة بكائنات الطبيعة التي رافقت صاحب «أوهام ريفية» في إقامته وارتحاله، حتى دخلت هذه الكائنات في لغته الشعرية بما يشبه النسغ أو الدم الريفي الزراعي، فنرى الشاعر يخاطب النبع، والضباب، والشجرة، والصخرة، والقمر، والغيم مستنطقًا الكائنات في حوار ثنائي أشبه بلعبة المرايا بين ذات الشاعر وكائناته الشعرية، في علاقة يغيّر ويغني فيها الشاعر علاقته بهذه الكائنات فتحضر على هيئة جديدة من الأفكار والرؤى والصور.

في هندستها للزمن الذي تُلتمس صورته في رحيل الغيم على سبيل المثال في مجموعة «فصول من سيرتي مع الغيم» (2011)، يختبر الشاعر العالم الغابر وقلق الزوال مما يذكر ـــ كما تقول الناقدة خالدة سعيد ــــ بقراءة هايدغر لشعر هولدرلين وكلامه عن «الفقدان والنفي المزدوج» ووجود الشاعر في مساحة برزخية بين الحضور والغياب، مساحة ذهاب وإياب، أو دفاع وهجوم، يتخيل فيها ويبدع ويسائل ويُسقط على الأشياء ظله ورؤاه، ويتحكّم بالمسالك والنوافذ التي تُطلق عالمه الصغير في العالم اللامتناهي: «كلما جاءت الحربُ/ أرسمُ لي خطّةً/ فألازمُ بيتي مُحاطًا بخطّيْنِ:/ خطّ دفاعٍ، وخطّ هجومٍ/ إذا انهارَ خطُّ الدفاعِ أحرّكُ خطَّ الهجوم/ إذا انهارَ خطُّ الهجومِ ألوذُ بخطِّ الدفاع/ وإذْ تنتهي الحربُ/ أبقى أسيرَ التذبذب بين الدفاعِ وبين الهجوم. لغة صاحب «حديقة الستين» لا تعرف التكرار، بل تتدفق فيها الصور العفوية والمركبة في شعرية لا يحدّ من اندفاعها الالتزام بشروط قصيدة التفعيلة، وتدخلنا في أفق سحري يصونه الإيقاع والموسيقى، وتتمسك القصيدة بحيوية اليومي والمعيش رغم فتحها لمنافذ على الفكر، ويتوازن فيها التردّد بين الصوت والمعنى وفقًا لتعريف بول فاليري للشعرية.

بعد المجلد الثاني لأعماله الشعرية الكاملة الصادر في العام 2022 وكتاب حواري مع الشاعر إسكندر حبش بعنوان «غيمة فوق سور الحديقة» عن دار «خطوط وظلال» الأردنية في العام ذاته، وقّع صاحب «أقصّر عن حبّك» مجموعته الشعرية الجديدة «في شؤون البصيرة» (دار «النهضة العربية») ليمضي في بصيرته الشعرية متلمّسًا طريقه في الدروب المجهولة والمصائر الغائمة: «ولأنك ما زلت تجهل دربكَ/ ها أنت تمضي طليقـًا/ وخطوكَ يفتح باب الفضاء».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد