جريدة الأخبار
لم يكن اقتصاد لبنان في فترة ما بعد الحرب الأهلية قادراً على الاستدامة. ومن البديهي، أنه في حال توافرت الرغبة والإرادة لبناء نموذج جديد، لا بد أن يكون الرهان بأنه قابل لامتصاص الصدمات الداخلية والخارجية نسبياً، حتى لا تكون الأزمات محطات حتمية. ليس الأمر بسيطاً في مجتمع تتكثّف فيه عوامل التفجير والقلق من الآخر، ويرتبط بشكل وثيق بعوامل إقليمية ودولية هي الأخرى غير ثابتة. ففي أي ظروف يمكن بناء نموذج يدعم نموّاً طويل الأجل؟ في أي إطار جيوسياسي؟ ونحو أي أهداف؟
ما كان لدينا، وهو يعود الآن إلى الحياة بعدما تشوّه المجتمع أكثر مما كان، هو اقتصاد مبنيّ على الاستدانة من الخارج، ويشجّع الهجرة من أجل استقطاب التحويلات، ويفتح الأبواب لمصادر الريع السياسي، ويتغذّى على كل هذه التدفقات التي جرى توزيعها في الداخل عبر قنوات مختلفة أبرزها المصارف التي أفلست. كان هذا النموذج وصفة لانعدام الاستقرار المالي، واتّساع الهوّة في توزيع الثروة والدخل، والاستدانة المفرطة بالعملات الأجنبية... بكل ما لذلك من انعكاس على المجتمع، يتمثّل في هجرة الأدمغة وذوي الكفاءات، وتركّز الاستهلاك المستورد، والتخلّي عن الإنتاج المحلّي. ما كان لدينا هو عكس النموذج المستدام.
يعتقد رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، عبد الحليم فضل الله، بأن انعدام استدامة النموذج الاقتصادي الذي كان سائداً «نابع من عدّة فرضيات لم يتحقّق منها شيء. أولاها أن الإنفاق على إعادة الإعمار اعتمد على الاستدانة من دون زيادة المداخيل الضريبية، في إطار رهان على النموّ المستقبلي لتغطية هذه الكلفة»، وهذا ما لم يحصل «بل خلق فجوة غير مستدامة في المالية العامة». كذلك، أدّى الأمر إلى فجوة في القطاع الخاص عند الأسر والأفراد ظهرت بشكل واضح في «عجز الحساب الخارجي» الذي كان «أساس عدم استدامة النموذج الاقتصادي. ما خلق هذا العجز هو تثبيت سعر الصرف الذي ضخّم القدرة الشرائية للأسر ورفع الفوائد في الوقت نفسه من أجل اجتذاب رؤوس الأموال الجديدة». فالعملات الأجنبية التي كانت تدخل إلى لبنان من خلال الدورة الاقتصادية هي أقل من العملات الصعبة التي تخرج منه.
كان هناك خلط بين الأموال الآتية من الدورة المالية، والأموال المتأتية من الدورة الاقتصادية. لذا، من المهم التفرقة بين الدورتين. فالدورة المالية هي عبارة عن حركة رؤوس الأموال على شكل ودائع في القطاع المصرفي، أما الدورة الاقتصادية، فهي دورة الإنتاج الذي ترتكز عليها قيمة الأموال الموجودة لخلق خدمات وسلع يمكن استهلاكها محلياً أو تصديرها إلى الخارج.
تمّ ردم الفجوة بين الدورتين بشكل اصطناعي؛ إذ جرى «نفخ» القدرة الشرائية للمستهلكين في لبنان عبر تثبيت سعر الصرف الذي أظهر سعراً وقوّة شرائية لليرة أعلى من سعرها الفعلي مقابل الدولار، ثم استُخدمت الأموال المتدفقة من الدورة المالية، أي التي أتت إلى المصارف، في الإقراض الاستهلاكي لتمويل شراء السيارات المستوردة وتمويل المضاربات العقارية على الأراضي والمساكن، أو حتى لعمليات تجميل جسدية وسواها، ولم تكن هذه القروض مدعومة أو مغطّاة إلا بالمداخيل المحلية المدعومة بسعر الصرف المنفوخ. وقد انعكس الأمر على قيم الأصول في لبنان، ورفعها بشكل لا يتناسب مع قيمها الحقيقية، وجرى تزخيم الأمر من خلال تحفيز المضاربات. كانت هذه القروض متوافرة بسبب طفرات التدفقات التي أدّت إلى فائض من السيولة بينما كان عجز الحساب الخارجي يزداد بشكل ثابت.
بحسب فضل الله، فإنه عندما تتوقف الدورة المالية، يهتزّ سعر الصرف وتظهر القيمة الحقيقية للأجور متدنية أكثر مما كانت عليه أيام التثبيت، وفي النتيجة انفرطت قدرتها على تغطية قيمة القروض ولم يعد للعاملين في القطاع الخاص القدرات التي كانوا يتميّزون بها فائض السيولة وتثبيت سعر الصرف. «هذا تجسيد عدم استدامة النموذج القائم»، ففي الواقع كانت مداخيل الدولة والأسر تعبّر عن الحركة المالية فقط وليس الحركة الاقتصادية، إذ إن قيمتها كانت مضخّمة. لذا، لا يجب الخلط بين الدورة المالية والدورة الاقتصادية. يقول فضل الله: «في الدورة المالية يمكن أن تدخل الأموال إلى البلد، لكنّ هذه الأموال هي بمثابة ديون، ولا علاقة لها بالناتج أو بالمداخيل. وعندما تقلّصت وتوقفت حركة الأموال، انكشفت هذه الخسارة الضمنية. هناك حالة واحدة تعبّر فيها الدورة المالية عن نفسها في الدورة الاقتصادية، وهي من خلال الاستثمار الحقيقي، أي أن تُستثمر الأموال القادمة من الدورة المالية في مشاريع في الاقتصاد الحقيقي لتخلق إنتاجاً حقيقياً وتخلق قيمة مضافة».
راهناً، لا يفترض أحد أن الهيكل الاقتصادي اللبناني سيتغيّر بشكل جذري، بحيث يُصبح اقتصاداً زراعياً أو صناعياً بين ليلة وضحاها. لكن على الأقل، إذ استمرّ لبنان في الاستفادة من القاعدة المصرفية الموجودة، بعد إعادة هيكلتها، من خلال إعادة تفعيل الدورة المالية، لا بد من التأكّد من ألا تتكرّر أخطاء الخلط بين الدورتين (أي المالية والاقتصادية)، حتى يُدفع الاقتصاد نحو الاستدامة، فيكون قادراً على الإنتاج والاستهلاك من دون أن تكون الخضّات المالية والنقدية والمصرفية حتمية أو متزامنة.
التحويلات في الدورة الاقتصادية
التحويلات المالية، التي تُعرف بتحويلات المغتربين، لها طابع مستدام ويمكن احتسابها في الاقتصاد، ويمكن اعتبارها إنتاجاً. فهي عبارة عن أجر، أو جزء من أجر أحد اللبنانيين في الخارج، أو عبارة عن أرباحه من أعماله في الخارج، وهي بالتالي إنتاج. هذه الأموال تختلف عن الودائع المحوّلة إلى القطاع المصرفي، وهي عبارة عن ديون على القطاع المصرفي، بل هي إنتاج حدث في الخارج وتحوّل إلى الداخل ويمكن أن يدخل في الدورة الاقتصادية، كجزء من المداخيل التي يمكن استهلاكها من دون الحاجة إلى تضخيم قيمتها والمخاطرة في كشف أي فجوة في الحساب الخارجي، لكنّ الاعتماد عليها في الاقتصاد ينطوي على مخاطر كبيرة متصلة بجودة النمو الذي تخلقه من استهلاكها بدلاً من تحفيزها لتكون مدّخرات يتم تحويلها إلى استثمارات.