تواجه الأرشفة الرقمية للجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين خطرًا حقيقيًا، مع تهديد مستمر بفقدان الأدلة البصرية التي توثق هذه الفظائع. إذ تتعرض محتويات مواقع التواصل الاجتماعي من مقاطع الفيديو المنشورة على "تليغرام" إلى المنشورات على "إنستغرام"، للحذف والرقابة المشددة. ولتفادي هذا المصير، يسعى مؤرخون ومؤرشفون إلى توثيق أكبر قدر ممكن من هذه المواد قبل أن تُطمس من الفضاء الرقمي.
من بين هذه المبادرات، يبرز دور "مختبر الأرشيف والوسائط الرقمية"، الذي يعمل على أرشفة محتويات متعددة، تشمل الوثائق والتحف والمنشورات الرقمية من غزة. وتنقل خدمة SBS News عن جميلة غدار، الأكاديمية اللبنانية المقيمة في بيروت والمديرة المؤسِّسة للمختبر أن "التوثيق لا يقتصر على تسجيل الأحداث، بل يساهم في إثبات حقوق الفلسطينيين، لا سيما حق العودة، كما هو منصوص عليه في أكثر من مائة قرار للجمعية العامة للأمم المتحدة". وتضيف أن "قطع الإنترنت والرقابة المشددة من شركات وسائل التواصل الاجتماعي جعلا توثيق الإبادة الجماعية في خطر كبير".
حفظ أرشيف جرائم الاحتلال
بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 و19 يناير/ كانون الثاني 2025، نفّذت إسرائيل إبادة جماعية في قطاع غزة، أسفرت عن استشهاد وإصابة نحو 159 ألف فلسطيني، معظمهم أطفال ونساء، وخلّفت 14 ألف مفقود، ودمارًا واسعًا شمل 137 مدرسة وجامعة بشكل كلي، و357 بشكل جزئي. كما استهدفت 823 مسجدًا ودمّرت 3 كنائس، إضافة إلى 34 مستشفى و80 مركزًا صحيًا، فضلًا عن الاعتداء على 162 مؤسسة صحية و136 سيارة إسعاف و206 مواقع أثرية وتراثية.
مع الرغم من الرقابة والتضييق، ظهرت هذه الجرائم في محتويات رقمية انتشرت على نطاق واسع، متجاوزة القيود التي فرضتها شركات أميركية مثل "ميتا" على "فيسبوك" و"إنستغرام"، والضغوط السياسية التي مورست على "تيك توك" لمنع نشر مقاطع توثق العدوان الإسرائيلي. كما لجأ الاحتلال إلى قطع الاتصالات والإنترنت في غزة لمنع تسريب مشاهد المجازر، في وقت قتل فيه 205 صحافيين وإعلاميين، ومنع دخول الصحافيين الأجانب إلا تحت رقابته.
أمام هذه المعطيات، بات توثيق المحتوى الرقمي مسؤولية تقع على عاتق الصحافيين والمواطنين الفلسطينيين، ممن خاطروا بحياتهم لنقل الحقيقة. جهودٌ يعمل مؤرخون وأرشيفيون مثل غدار على حمايتها من الزوال، لضمان بقائها شاهدةً على المجازر.
تجربة الأرشفة الرقمية للانتهاكات ليست جديدة، فقد أسّس هادي الخطيب منظمة "نمونيك"، التي تعمل على حفظ وتوثيق الجرائم من مناطق النزاع مثل اليمن والسودان وأوكرانيا وسورية. وكانت السلطات الفرنسية قد اعتمدت عام 2024 على أرشيف "نمونيك" لإصدار مذكرة اعتقال دولية بحق بشار الأسد وثلاثة من مسؤولي نظامه، بسبب استخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين خارج دمشق في 2013. ويقول الخطيب: "هذا العمل أساسي لتحقيق العدالة، ولإبقاء الأمل في بناء مستقبل أفضل قائم على المحاسبة والسلام".
أرشفة لا تخلو من تعقيد ورقابة
لا تخلو عملية الأرشفة الرقمية من التعقيدات، خصوصًا أن المحتوى الرقمي متغير بطبيعته، ما يجعل حفظه تحديًا تقنيًا. توضح غدار أن "أرشفة مواقع التواصل الاجتماعي أصعب من حفظ الوثائق أو الأدلة المادية، لأن الإنترنت يتغير باستمرار". ولذلك، يعتمد المختصون على التقنيات الحديثة مثل تحليل البيانات الوصفية وتحديد الموقع الجغرافي للتحقق من صحة المحتوى.
لكن التحديات لا تقتصر على الجانب التقني، إذ تواجه جهود التوثيق عراقيل قانونية وضغوطًا سياسية. تطالب غدار الحكومات بتعديل قوانين البيانات لضمان أن يبقى المحتوى ملكًا لصانعيه وليس لمنصات التواصل الاجتماعي، محذرة من أن "محاولات الشركات لاحتكار المحتوى الرقمي تعني محو التاريخ، وبالتالي محو الشعوب".