المنذر الدمني/ جريدة الأخبار
من هو البطل في عصرنا الحالي؟ ما هي صفاته؟ والأهم: ما هي الأثمان الواجب دفعها ليكون المرء بطلًا؟ ما شكل العالم اليوم الذي يحتاج إلى البطل؟ وما هي طبيعة الأفعال التي تجعله بطلًا؟ كيف يرى نفسه؟ وكيف يراه الناس؟ وهل هذا مجدٍ فعلًا؟
يطرح مسلسل «البطل» (مقتبس عن فكرة للكاتب المسرحي السوري الراحل ممدوح عدوان ـــ تأليف الليث حجو ورامي كوسا ـــ إخراج الليث حجو) هذه الأسئلة عبر حكاية قرية شبه معزولة عن العالم الخارجي، ليس فيها سوى باص واحد يصل سكانها بالخارج. داخل هذه القرية، هناك الكثير من الشخصيات والعلاقات الاجتماعية التي انعكست عليها تداعيات الحرب بشكل غير مباشر. حتى الحلقة التاسعة، نرى أن الحرب تحيط بالقرية. نسمع أصواتها تحاصرها، حتى إنّها تدفع أهالي القرية المجاورة إلى النزوح إليها.
هنا تبدأ تتولّد الأحداث والصراعات، ونرى شخصية البطل الأستاذ يوسف عيد صالح (بسام كوسا) مدير المدرسة، الذي يحمل على عاتقه مسؤولية احتواء النازحين في المدرسة متحدّيًا حتى الشرطة. منذ البداية، نراه شخصيةً ذات منظومة أخلاقية لا تقبل المساومة، فعندما يرى إنسانًا بحاجة إلى المساعدة، يهمّ إلى ذلك، وهذه المنظومة الأخلاقية في عالم غير عادل كالعالم القرية قد تكون مسبّبًا للمضايقات أكثر من العودة بالمحاسن.
يتجلّى ذلك بشكل كامل عندما يقع حريق في المدرسة بسبب الإهمال الحكومي وزيادة الضغط بعد إيواء النازحين فيها. هذا الحريق يتسبّب في محاصرة أحد الطلاب في النيران، ولكن الأستاذ يوسف يذهب لكي ينقذه بلا تفكير، وينجح في ذلك، لكنّ انفجارًا يقع ويتسبّب في إصابته بالشلل. وهنا نرى التحول الأول في شخصية يوسف، إذ بات البطل يحتاج إلى الكثير من المساعدة في حياته اليومية.
نرى انكساره في أبسط اللحظات في الوقت الذي أصبح فيه بطلًا أمام كل أهالي القرية، وفي عيون الحكومة التي تريد أن تركب أي موجة من دون تقديم أي خدمات. يتجلّى هذا الانكسار عندما يرضخ لرغبة الحكومة في تكريمه كي تصل كل مطالب القرية والنازحين إلى البلدية والعمل على حلّها، فهو ما زال ـــ رغم كل شيء ــــ يضع المصلحة العامة قبل مصلحته الشخصية، لكنّنا سنرى في قادم الحلقات كيف ستتغير الأساليب وقدرته على الحفاظ على سلوك يناسب معتقداته، لأنه بدأ يقع ما بين الواقع والوهم في رؤية العالم.
على الرغم من أنّ شخصية يوسف أقرب إلى المثالية، إلا أنّنا نشاهد بُعدًا من أبعاد تناقض الذات الإنسانية لديه، حين يستغل وضعه كي يضغط على ابنته الدكتورة مريم (نور علي) لكي تبقى بجانبه ولا تسافر مع خطيبها الأستاذ مروان (خالد شباط). رغم مثاليته أمام أهالي القرية، إلا أنّه يبقى أبًا أنانيًا لا يريد لابنته أن تتركه وتذهب.
عبر حكاية مريم ومروان، نرى حكاية الشباب الذين يقعون في خيار السفر والصراع الوجودي الذي يفرض عليهم إما البقاء لإنقاذ الأهل أو الرحيل لإنقاذ الذات، فهو خيار خاسر في كل الأحوال.
إلى جانب خط الأحداث الخاص بشخصية يوسف، هناك خطّ آخر يتعلق بالشاب فرج (محمود نصر) الميكانيسيان المنبوذ من قبل الأهالي، لأنه ولد في السجن بعدما قُتل والده على يد والدته. وحين خرجت من السجن، بدأت العمل في غسيل الموتى. ولهذه الأسباب ترفضه عائلة الفتاة التي يحبها، فيقررا الهرب معًا، وهذا ما يزيد من غربته ونبذه في القرية، ليقع في صراع مع وجوده والعالم القاسي الذي يفرض عليه الكثير من الخيارات مثل خيار العمل في التهريب الذي يرضخ له في النهاية.
تتخلّل خيوط السرد الأساسية الكثير من قصص الشباب والنازحين الذين خسروا منازلهم. قصص كثيرة من البؤس المختلفة التي تحيط بعالم القرية ويفرزها عالم الحرب، في غياب واضح للدعم الحكومي الذي يعتمد بشكل أساسي على كذبة أنّ الدولة تتعرّض لمؤامرة كونية ولا وقت لديها للشعب، فهي لا تشمله حتى في خطابها. نرى بأنّ كل شخصيات المسلسل تعيش صراعًا مع العالم والظلم الذي يتجلى في العلاقات الإنسانية التي تفرض سلوك الشخصيات المشوّهة والاستغلال الواضح من قبل السلطة لكل هذا.
يصوّر المسلسل الفضاء السوري قبل سقوط النظام، والمرحلة التي تحوّلت فيها الثورة إلى حرب عشوائية، وأصبحت الحرب حجةً لاستمرار السلطة في فسادها وحجةً لتقصيرها وقصف الناس وقتلهم.
هذه الحرب أضاعت البوصلة حتى بالنسبة إلى الناس الذين أصبحوا يرغبون بالنجاة والخلاص فقط. هذه الرغبات تتجلى في صراعهم مع العالم، وتتحدد بحسب ظروف كل شخصية ووعيها، وهذه الحرب التي هدمت العالم بالنسبة إلى هؤلاء الناس خلقت عالمًا آخر موازيًا وقبيحًا، والناس يتأرجحون ما بين أنقاض الماضي وما بين صراعهم لكي لا يتحولوا إلى وحوش في الحاضر.
ينقل صنّاع العمل رؤية العالم هذه بطريقة فنية متقنة، أولًا على صعيد الكاميرا وحركتها، إذ اعتمدوا بشكل كبير على تقنية الـ one shot التي تجعل اللحظة طويلةً، لتنقل لنا حالة الترقب والواقعية النفسيّة التي تصور العالم المجاور للحرب.
لا بد من الإشادة بأداء الممثلين، فالعمل على هذا الشقّ كان واضحًا بدءًا من أداء الشخصيات ذات التعقيدات النفسية والمتناقضات، وصولًا إلى الشخصيات البسيطة التي عمل عليها الممثلون كي لا تكون مجرد أنماط.
لا بد من التوقف عند الحضور الكبير والمميز للممثلين الشباب من خريجي المعهد العالي للفنون المسرحية، فقد اجتمعت كل العناصر من الكتابة إلى الإخراج والأداء لصناعة عالم الحرب المأزوم الذي يخسر فيه البطل كل ما لديه، وتصبح بطولته لعنته الوجودية وخطأه التراجيدي. عالم يصبح فيه الحب من أصعب التفاصيل الحياتية وأكثرها تضحيةً وجهدًا، والوحشية والفساد من أسهل الخيارات وأكثرها ربحًا، في انتظار ما سيقدمه لنا المسلسل إلى نهاية الشهر من تسلسل خط الحكاية واكتمال المفاهيم التي بدأ بالعمل عليها.
«البطل»: س: 00:00 بتوقيت بيروت على «MBC دراما»
* س:20:00 على «سوريا الثانية»