علي عواد/ جريدة الأخبار
إذا دعمت فلسطين بمنشور بعد 7 أكتوبر، فقد يُمنع دخولك إلى الجامعات الأميركية! كيف يُستخدم الذكاء الاصطناعي أداةً للقمع؟
في أميركا ترامب، صار الذكاء الاصطناعي شرطة رقميةً، تفتش في ماضيك لتقرّر ما إذا كنت تستحق فرصةً تعليمية أو... الإقصاء! هل أصبحت رواية «1984» واقعًا؟
يبدو أن رائعة جورج أورويل لم تعد مجرد ديستوبيا روائية، إنما كتيّب إرشادات تنفذه واشنطن الترامبية بحذافيره. الفرق الوحيد أنّ «الأخ الأكبر» في عصرنا هذا ليس رجلًا عابسًا يراقب الناس من شاشة قديمة، بل خوارزمية صمّاء تحلل الكلمات، وتقرر إن كان الشخص يستحق فرصةً تعليمية أو وجب حذفه من المشهد.
في عالم جورج أورويل، كان الحزب الحاكم يعيد كتابة التاريخ ليتناسب مع روايته الرسمية، واليوم، يتولّى الذكاء الاصطناعي الأميركي المهمة نفسها: ينقّب في ماضي المستخدمين الرقمي، يعيد تفسيره وفقًا للمزاج السياسي السائد، ويحكم على الناس بناءً على تغريدة كتبوها قبل خمس سنوات. في «1984»، كان المذنبون يختفون في أقبية «وزارة الحب» (الوزارة المسؤولة عن التعذيب وتكتيكات التخويف). أما اليوم، فمصيرهم الحظر، الترحيل، والمنع من الدراسة. والنتيجة واحدة: مواطنون خانعون، جامعات خالية من الفكر الحرّ، ونظام لا يطلب منك إلا شيئًا واحدًا... أن تحبّ «الأخ الأكبر»، أو في حالتنا، أن تحب «الصهاينة».
يهوي قناع الحرية الأميركية بسرعة قياسية في عهد اليمين الجمهوري، وهذه المرة عبر بوابة الذكاء الاصطناعي. ها هي وزارة الخارجية، بقيادة ماركو روبيو، تدفع بأحدث أدوات الرقابة التكنولوجية تحت شعار «امسك وامنع» (Catch and Revoke).
نظام مصمّم خصيصًا لمراقبة حسابات الطلاب الأجانب المتقدمين للدراسة في الولايات المتحدة، يفتش في أرشيف منشوراتهم الرقمية بحثًا عن أي إشارة تعاطف مع فلسطين، أو حتى مشاركة عابرة في تظاهرة مناهضة للحرب.
لا حاجة إلى آلة زمن تكشف المستقبل القريب، فمراقبة الأحداث تكفي لفهم كيفية تطوّر الآلة الأمنية الأميركية. الآن، الذكاء الاصطناعي يقرر مصير الطلاب، وغدًا قد يحدد حتى مَن يحق له دخول المكتبات العامة.
الفكرة ببساطة: إذا كتبتَ منشورًا يرفض المجازر الإسرائيلية، فقد تُمنع من دخول «أرض الحرية» للدراسة. لا يتوقف الأمر عند المنشورات، بل يمتد إلى تحليلات الأخبار، والدعاوى القضائية، وتقارير الصحافة التي قد تضع اسم الطالب في خانة المشبوهين. «نهج حكومي شامل، باستخدام كل الصلاحيات المتاحة»، هكذا وصفت الخارجية الأميركية هذا البرنامج، وفقًا لتقرير نشره موقع «أكسيوس».
لكن ما الذي يدفع واشنطن إلى تفعيل هذا المستوى من الرقابة؟ الإجابة في البيت الأبيض، حيث يجلس الرئيس دونالد ترامب مستمتعًا بحالة الطوارئ الدائمة التي فرضها على البلاد. الرجل الذي وعد في حملته الانتخابية الأخيرة بطرد كل طالب أجنبي يشارك في احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، ينفّذ وعوده بأسلوبه الجديد: القمع الاستباقي.
«المحرّضون سيسجنون أو يرحّلون بشكل دائم إلى بلادهم. أما الطلاب الأميركيون فسيُطردون نهائيًا أو يُعتقلون»، هكذا قالها ترامب صراحةً في حملاته الانتخابية.
لكن هل يقتصر الأمر على الطلاب؟ بالطبع لا. هذه السياسة تتماشى تمامًا مع نهج الإدارة الأميركية الجديد، الذي يشمل أيضًا معاقبة المؤسسات التعليمية التي لا تلتزم بتوجيهات الولاء الكامل لإسرائيل. مثال على ذلك؟ جامعة «كولومبيا» التي خسرت فورًا 400 مليون دولار من التمويلات الفيدرالية بسبب ما وصفته إدارة ترامب بـ«التقاعس عن مواجهة المضايقات المستمرة التي يتعرض لها الطلاب اليهود».
منظمات الحقوق المدنية والدستورية رفعت الصوت، لكنها تصرخ في وادٍ بعيد. «الذكاء الاصطناعي ليس خبيرًا موثوقًا في حرية التعبير»، تقول مؤسسة «حقوق الأفراد والتعبير»، محذرة من أنّ هذه الخطوة ستفتح الباب أمام رقابة ذاتية غير مسبوقة داخل الجامعات الأميركية. أما اللجنة الأميركية لمناهضة التمييز ضد العرب، فذهبت أبعد من ذلك، مؤكدة على أنّ هذا القرار «يجب أن يثير قلق جميع الأميركيين، وليس فقط الطلاب الأجانب»، لأنه يمثل بدايةً لعصر جديد من القمع الرقابي الممنهج.
في واشنطن، يجري التحضير لجولة أخرى من السيطرة الكاملة على المجال العام. الصحف الكبرى إما خضعت أو ستخضع قريبًا. «واشنطن بوست» نفسها، صارت الآن تراجع خطها التحريري بعد ضغط واضح من البيت الأبيض. ومالك الصحيفة، مؤسس «أمازون»، جيف بيزوس (الأخبار 7/3/2025)، صار يدعو إلى إلغاء الآراء المعارضة، والتركيز على «السوق الحرة»، وقريبًا، يُعرض وثائقي عن ميلانيا ترامب على «أمازون برايم».
الولايات المتحدة، التي نصّبت نفسها شرطيًا أخلاقيًا على حرية التعبير في العالم، أصبحت اليوم نسخةً رقمية متطورة من الأنظمة التي تهاجمها صباحًا ومساءً.
الدولة التي كانت تُحاضر الآخرين في الانفتاح والديموقراطية، صارت ترتجف من تغريدة، وترتعد خوفًا من هتاف طلابي في ساحة جامعة. أميركا، التي كانت تتفنن في تصنيف الدول بين «ديموقراطية» و«ديكتاتورية»، لم تعد تختلف كثيرًا عن تلك الأنظمة التي ترصد الكلمات قبل أن تُقال، وتلاحق أصحابها حتى في أحلامهم.
لكن الفارق أن الدكتاتوريات التقليدية تعتمد على الشرطة السرية، بينما أميركا ترامب سلّمت المهمة للذكاء الاصطناعي: روبوتات بلا روح تفتش في أرشيف الإنترنت، تبحث عن أي جملة منحرفة عن السردية الرسمية، ثم تُصدر حكمًا بالمنع والطرد بضغط زر.