اوراق مختارة

ترسيم الحدود بين لبنان وسورية "الجديدة": خرائط القوى وتكلفة السيادة

post-img

سهى محمد (الأخبار)

في لحظة تحوّل إقليمي نادرة، تُطرح من جديد مسألة ترسيم الحدود بين لبنان وسورية، بعد أن أطاحت الأحداث المتسارعة في دمشق بالنظام السوري السابق، وأتت بسلطة "انتقالية" جديدة بقيادة أحمد الشرع، تُحاول رسم منظومة جديدة لإعادة تشكيل مستقبل سورية.

ما كان من المحرمات السياسية أو الملفات المؤجلة أصبح مطروحًا بجرأة على الطاولة، لكن طرحه لا يعني حسمه، بل ربما تعقيده أكثر، إذ يتقاطع هذا الملف الحساس مع مصالح قوى إقليمية ودولية كبرى، تتربص بمصير سورية الجديدة، وبسيادة لبنان الممزقة أصلًا.

سؤال الحدود: قضية قديمة في ظرف جديد

تعود جذور النزاع إلى "اتفاقية سايكس بيكو" عام 1916، حيث رسمت فرنسا الحدود بين سورية ولبنان بطريقة مبهمة، ما أدى إلى تداخل جغرافي وديمغرافي معقّد، إذ لم تُرسم الحدود بين لبنان وسورية يومًا بشكل نهائي وشفاف. منذ الاستقلال، بقي الخط الفاصل بين البلدين محكومًا بتفاهمات ميدانية هشّة، وتداخلات عشائرية وطائفية، واستُخدم مرارًا كأداة ضغط سياسي وأمني، خصوصًا خلال الوجود السوري في لبنان.

وبعد الانسحاب السوري عام 2005، حاولت بعض القوى اللبنانية التي رحّبت بالانسحاب السوري الدفع باتّجاه الترسيم، لكنّها اصطدمت بممانعة سياسية إقليمية، تارة باسم "خصوصية العلاقات الأخوية"، وتارة أخرى بحجة "مقاومة الكيان الصهيوني المحتل الرابض على الحدود والمنتهك لكل الاتفاقات".

اليوم، مع وجود سلطة سورية جديدة، يعود السؤال بقوة: هل ستُرسم الحدود أخيرًا؟ أم أن الترسيم سيكون مدخلًا إلى صراعات جديدة وتصفية حسابات قديمة؟

لقاءات غير معلنة... وخرائط تُرسم في الظل

بحسب مصادر دبلوماسية مطلعة، فإن لقاءات غير رسمية بدأت بالفعل بين مسؤولين من السلطة السورية الجديدة وشخصيات لبنانية مؤثرة، بوساطات دولية صامتة.

الملف الأبرز في هذه اللقاءات، إلى جانب قضايا اللاجئين والتنسيق الأمني، كان مسألة ترسيم الحدود رسميًا للمرة الأولى. غير أن ما يثير القلق هو الحديث عن خرائط جديدة أُعدت في مراكز دراسات غربية، وتحديدًا ضمن دوائر أمنية قريبة من واشنطن وتل أبيب، تتضمن تعديلات جغرافية حساسة تمس مناطق مثل القاع، عرسال، القصير، وحتّى سفوح جبل الشيخ. ويبدو أن بعض هذه الخرائط تُطرح على أنها "تصحيحات تقنية"، لكنّها في الواقع تحمل في طياتها تغييرات إستراتيجية تهدّد التوازن الديمغرافي والسياسي في البلدين.

تسعى السلطة السورية الجديدة، من جهتها، إلى استخدام ملف الترسيم كرمز لما تدعي أنه استعادة للسيادة و"القطيعة الرمزية" مع إرث النظام السابق من جهة، وربما لفرض أجندات تخدم مصالح أطراف إقليمية وغربية وما هو أبعد من ذلك مصلحة الكيان الصهيوني المحتل.

أما في لبنان، فإن المشهد منقسم: هناك من يرى في الترسيم ضرورة سيادية طال انتظارها، في ما يحذّر آخرون من أن الخط قد يُرسم بطريقة تُقيّد حركة قوى المقاومة أو تُفرّغ مناطق من عمقها الديمغرافي والإستراتيجي.

الكيان المحتل في قلب الحسابات

اللاعب الأكثر نشاطًا خلف الكواليس هو الكيان الصهيوني. صحيح أن "إسرائيل" ليست طرفًا مباشرًا في الحدود اللبنانية - السورية، لكنّها ترى في أي ترسيم فرصة إستراتيجية لفرض أمر واقع يخدم مصالحها الأمنية.

وفق تحليل مراكز أبحاث "إسرائيلية" مثل( INSS)، فإن "ترسيم الحدود بشكل يقيّد حركة حزب الله ويُضعف عمقه السوري يُعد هدفًا إسرائيليًا رئيسيًا". كما تسري تحليلات في أروقة القرار الغربي بأن "تل أبيب" تضغط باتّجاه ترسيم حدود "يُقصي حزب الله" عن العمق السوري، وتيثبّت سيطرتها على تلال كفرشوبا ومزارع شبعا، سواء بإعادة تصنيفها قانونيًا أو بتجميدها عمليًا من خلال اتفاقات غير مباشرة. كما ترتبط مطامع الكيان الصهيوني بملف الغاز شرق المتوسط، إذ يرى أن ضبط الحدود البرية قد يفتح الباب على مزيد من التنازلات البحرية. ومن هنا، فإن أي خريطة جديدة ترعاها قوى غربية لا يمكن فصلها عن شبكة مصالح الكيان المحتل الممتدة من الجولان حتّى شواطئ الناقورة.

روسيا تراقب... وإيران تتوجّس

في مقابل هذا الزخم الغربي، تلتزم روسيا موقفًا حذرًا، لكنّها ليست غائبة، فموسكو، التي استثمرت عسكريًا وسياسيًا في النظام السوري السابق، تدرك أن ترسيم الحدود هو لحظة دقيقة قد تُعيد تشكيل التوازن الإقليمي، ولهذا فهي تسعى إلى التأثير من خلف الستار. وتشير مصادر روسية إلى أن الكرملين لا يعارض مبدأ الترسيم، لكنّه يرفض أي خطوات تستثني مصالحه أو تُنتج خرائط دون مشورته. أما إيران، فموقفها أكثر توجسًا. بالنسبة لطهران، الحدود بين لبنان وسورية ليست مجرد مسألة سيادية، بل شريان حياة إستراتيجي لحركتها الإقليمية، ولحزب الله تحديدًا، وبالتالي، قد يُفسَّر ترسيم الحدود على أنه "خنق ناعم" للمقاومة، يُقابل بردّ فعل مباشر أو غير مباشر.

أزمة سيادة في غلاف قانوني

في الظاهر، يبدو الحديث عن ترسيم الحدود ممارسة سيادية بحتة، لكن الواقع يُظهر أنه أداة تفاوضية بامتياز. من يرسم؟ ولأي غرض؟ وبأي خرائط؟ وفي ظل أي ميزان قوى؟ هذه الأسئلة تجعل من الترسيم فعلًا سياسيًا لا إداريًا، حيث يمكن أن يُستخدم لضبط الأمن أو لإعادة رسم النفوذ، أو حتّى لتصفية الحسابات التاريخية. وإذا كان القانون الدولي، بمبادئه المدرجة في ميثاق الأمم المتحدة، واتفاقياته المختلفة يشجع على ترسيم الحدود بين الدول المجاورة لضمان السلم والأمن الدوليين، فإن فرض خرائط أو صفقات من قِبل أطراف دولية أو إقليمية دون توافق داخلي حقيقي، يُحوّل الترسيم إلى أداة للهيمنة وليس للاستقرار. فالقانون الدولي يعتبر أنّ أي ترسيم حدود يجب أن يتم عبر اتفاق ثنائي واضح، يُقرّه البرلمانان في سورية ولبنان، وهذا غير وارد حاليًا، أقله في سورية "الجديدة".

وعليه، لا يمكن لأي أطراف لبنانية (تدعي أنها تعمل على التفاوض بشأن هذا الملف) تمرير أي خرائط أو أي تفصيل يتعلق بترسيم الحدود دون المرور عبر القنوات الدستورية والتشريعية المعروفة ابتداء بالحكومة (مكتملة التوافق) وصولًا إلى المجلس النيابي (تحديدًا اللجان المكلفة بقراءة هذا الملف ومتابعته والبت فيه قبل التصويت عليه والمصادقة على تفاصيله). لذلك، فإنّ استخدام خرائط مفروضة من جهات خارجية دون توافق وطني يُعد خرقًا للسيادة ويُعرض العملية للطعن القانوني لاحقًا. كما أن التدخل الفاضح للكيان الصهيوني المحتلّ في ترسيم حدود ليس طرفًا فيها مباشرة يُعد تدخلًا غير مشروع بموجب القانون الدولي.

خرائط تُرسم بالنيّات لا بالخطوط

بين الخرائط المسرّبة واللقاءات الخلفية والمصالح المتشابكة، يبدو أن ملف ترسيم الحدود بين لبنان وسورية بعد سقوط نظام الأسد سيكون ساحة لصراعات دبلوماسية واستخباراتية معقّدة. فهل يُكتب لهذا الملف أن يُغلق بترسيم عادل وشفاف، أم سيكون مدخلًا جديدًا لصراعات حدودية تشعل المنطقة مجددًا؟

لبنان وسورية اليوم على مفترق تاريخي، وقد يكون ترسيم الحدود بينهما فرصة لإرساء السيادة، أو مدخلًا لشرخ جديد يُكرّس الاصطفافات والانقسامات.

في ظل التوازنات الدقيقة، والتدخلات الخارجية المكثفة التي تستبيح كلّ شيء، يصبح من الواجب طرح السؤال التالي: هل يمكن للدول الصغيرة في الشرق الأوسط أن ترسم حدودها بقرار حر، أم أن الخرائط تُرسم في العواصم البعيدة، ثمّ تُفرض تحت غطاء القانون؟

الجواب، كما يبدو، لا يكمن في خطوط الجغرافيا، بل في نوايا من يرسمها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد