اوراق مختارة

جزين: انقلاب السحر على "ساحر معراب"

post-img

رلى إبراهيم (الأخبار)

في ميزان الأرباح السياسية، تُحتسب جزين للتيار الوطني الحر بمكيال الذهب، إذ لم تندمل بعد الجروح التي خلّفتها انتخابات 2022، حين انتزعت القوات اللبنانية مقعدَي التيار في القضاء، موجّهة له ضربة قاسية.

وسواء كانت تلك الخسارة نتيجة لسوء إدارة المعركة، أو بسبب التصدّعات الداخلية التي شلّت التنظيم الحزبي وأفضت إلى أنسحابات وخصومات، أبرزها خروج النائب السابق زياد أسود ومجموعة من مناصريه، فإن النتيجة هي نفسها: خسارة مؤلمة للتيار في إحدى قلاعه الحصينة.

لذلك، فإن للفوز الأخير طعمًا مختلفًا، إذ تمكّن التيار من إصابة عصفورين بحجر واحد: "القوات اللبنانية" من جهة، وأسود من جهة أخرى، ليدخل جبران باسيل جزين، مساء السبت، "فاتحًا".

بعد فوزها ببلدية زحلة، دخلت "القوات اللبنانية" معركة جزين على قاعدة "الربح يجرّ الربح"، وتعاطى القواتيون مع مساعي التوافق بينهم وبين التيار والنائب إبراهيم عازار من موقع قوة. فرفعوا سقف الشروط في المفاوضات إلى حد بدا وكأنهم يريدون إفشالها والسير كما حصل في زحلة منفردين.

وبُني هذا التصور على رهانات عدّة: أوّلها أن الخلاف التاريخي بين عازار والتيار سيحول دون التوصل إلى اتفاق، وثانيها أن حضور القوات على الأرض سيكون حاسمًا، خاصة مع تبنّيها شخصية "شعبوية" وتشكيلة من المرشحين المتحدّرين من عائلات جزينية وازنة، إضافة إلى استقطابها أصوات مؤيّدي شخصيات محلية كإدمون رزق وكميل سرحال، مع كثير من شعارات "الحرية والسيادة والتغيير"... وقرع الأجراس تحذيرًا من "الخطر" القادم على المدينة.

لكن، وعلى عكس ما خطّطت له معراب، انقلب السحر على الساحر. فالمعركة التي أرادتها القوات بوابة انتصار جديد تحوّلت إلى أنتكاسة مدوّية، إذ خسرت لائحتها جميع المقاعد، في ما يشبه الانهيار الكامل أمام تحالف التيار الوطني الحر – عازار، الذي حصد فوزًا كاسحًا بنتيجة 18–0، وبفارق يقارب 800 صوت.

فرصة ضائعة للتوافق

هكذا، بدت نهاية المعركة في جزين أشبه بصفعة انتخابية من العيار الثقيل، لا مجرد هزيمة عادية بعد مسار انحداري سلكته معراب. ففي البداية، قدّم عازار عرضًا لتشكيل لائحة توافقية تضمّ ممثلين عن العائلات الأساسية، تجنّب المدينة معارك كسر العظم التي شهدتها أقضية أخرى. لكنّ القوات التي كانت تعيش نشوة الفوز في زحلة، تعاملت مع المبادرة من موقع المنتصر، فرفعت السقوف إلى حدود التعجيز، واضعة شروطًا من بينها المداورة على رئاسة البلدية والقبض على عدد كبير من المقاعد.

مع سقوط مساعي التوافق، بنت "القوات" الموقف على فرضية أن عازار والتيار الوطني الحر لن يتمكّنا من تجاوز العداوة السياسية بينهما، ما سيفجّر أي محاولة تنسيق بينهما، وذهبت رهانات معراب إلى حد توقّع تشطيب متبادل بين أنصار الطرفين تصفية للحسابات.

لكنّ المفاجأة جاءت من حيث لم يتوقّع أحد: غازي الحلو، رجل الأعمال المعروف بنشاطه الاجتماعي، تحرّك في الكواليس ليبادر إلى تجميع آل الحلو والتيار وعازار في لائحة واحدة. ولم يكتفِ الحلو بلعب دور الوسيط، بل دخل عمليًا إلى صلب المعركة من بوابة ماكينة التيار، ففعّلها على نحو غير مسبوق منذ أكثر من عشر سنوات: عمل منسّق، نقليات منظّمة من بيروت، تواجد حزبي كثيف لشباب ومسؤولين، وتحضير ميداني جدّي بدأ قبل شهر.

سقوط "المعادلة السداسية"

عوّلت "القوات" على معادلة سداسية بدا أنها كفيلة بتأمين فوز مريح: أولًا، الرصيد النيابي للنائبين غادة أيوب وسعيد الأسمر في القضاء؛ ثانيًا، الكتلة الحزبية الصلبة؛ ثالثًا، ترشيح وجه شاب اعتاد السهر مع أبناء المدينة في أزقتها؛ رابعًا، ضمان نحو 200 صوت من مؤيّدي سرحال و400 من مناصري رزق؛ خامسًا، اختيار مرشحين من عائلات وازنة بما يكفل تأييدًا واسعًا؛ سادسًا، استنساخ إستراتيجية زحلة القائمة على التحذير من "الاقتراع لحزب الله".

حتّى قبل يومين من الانتخابات، كانت حسابات الماكينة القواتية تشير إلى فوز محسوم. لكن يوم الجمعة بدأ المشهد يتصدّع، بعد سقوط عنصرين محوريين من المعادلة:

الأول، نجاح لائحة "التيار - عازار" في قلب جزء من المزاج الجزيني من خلال ضرب صورة رئيس لائحة القوات بشارة عون، عبر التذكير بأنه صاحب كسارة متهمة بتشويه جبال القضاء، وتأليب القواتيين عليه كونه غير حزبي، ولتقديمه على الحزبي المتمرس سامر عون الذي شغل منصب نائب رئيس البلدية. هذا التباين أشعل فتيل التوّتر بين "العونيْن" وتطوّر إلى إشكال في الشارع بلغ حدّ التضارب.

والعنصر الثاني تمثّل في تهديد بعض أعضاء اللائحة بالانسحاب إذا أصرّت القوات على تسويقها كلائحة حزبية صرفة، ما كشف عن هشاشة داخلية في تركيب التحالف.

صباح السبت، كانت المفاجأة الأكبر: أعلام التيار البرتقالية تملأ شوارع جزين، في استعراض ميداني أعاد إلى الأذهان سيناريو "احتلال" القوات لزحلة. وفي ما نزل البلوك القواتي إلى صناديق الاقتراع باكرًا، تبيّن أن التعويل على أصوات سرحال ورزق لم يأت بالنتيجة المرجوّة، وبدأ الخوف يتسرّب إلى ماكينة معراب.

عندها، دخلت أيوب على خط التعبئة المتأخرة تحذيرًا من "الخطر" المتمثل بالثنائي الشيعي، رغم أن المدينة تخلو من ناخبين شيعة، وفي وقت كانت القوات نفسها تخوض الانتخابات في بلدة روم المجاورة متحالفة مع حركة أمل! هكذا، انهار آخر أسلحة التحريض، وتأكّدت الماكينة القواتية في ساعات ما بعد الظهر أن الفارق بات شاسعًا، وهو ما شجّع باسيل على الحضور إلى المدينة عند الخامسة عصرًا، قبل ساعتين من إقفال الصناديق.

هكذا، سقط حزب "القوات اللبنانية" في جزين، في ما استعاد التيار موقعًا خسره منذ ثلاث سنوات، مؤسّسًا على هذا الفوز تحالفات جديدة قد تمهّد لعودته النيابيّة من بوابة القضاء الجنوبي. ما هو أهم، أن التيار قطف ثمرة انفتاحه على باقي القوى، السياسية منها أو العائلية، في ما بدا أن معراب عادت إلى سياسة الانكفاء والانغلاق، متّكئة على خطاب طائفي مكرّر فقد صدقيته وتأثيره.

كما كان بات واضحًا أن وجود نواب فاعلين في بلداتهم، يمتلكون فهمًا عميقًا للمزاج المحلي، يشكّل عاملًا حاسمًا في حسم الاستحقاقات. هكذا كانت الحال مع جورج عقيص في زحلة وملحم رياشي في الجديدة - البوشرية - السد وأنطلياس. أما في جزين، فقد طغى الصراخ على الأداء. سعيد الأسمر، الغائب عن مشهد العمل البرلماني والجزيني على السواء، عاد بعد خسارة مدينته ليعد بـ"ربح الاتحاد". وأيوب، التي لا تمتلك سوى خطاب التخويف الطائفي، خسرت بلدة كفرفالوس أولًا، ثمّ جزين التي زارتها متوعّدة بـ"طرد الممانعة" و"استعادة القرار لأهالي المدينة".

غير أن المعركة لم تنتهِ بعد. الساحة المقبلة هي اتحاد بلديات جزين، مع سعي القوات إلى السيطرة على الاتحادات البلدية في الأقضية. لكن أول امتحان جاء مخيبًا: في المتن الشمالي، خسرت نيكول الجميل، شقيقة النائب سامي الجميل والمدعومة من القوات والكتائب، أمام رئيسة بلدية بتغرين ميرنا المر، بفارق كبير (22 مقابل 11 صوتًا)، في مؤشر إضافي إلى أن المشهد السياسي مقبل على تحوّلات أعمق مما تظنّ معراب.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد