أوراق ثقافية

صدى صوته يئن في غزة

post-img

ثائر أبو عياش/ جريدة الأخبار

لم يكن زياد الرحباني فنانًا عاديًا. كان مشروعًا إنسانيًا، مزيجًا من الألم والسخرية، من الموسيقى والكلمة التي تنطق بما يهرب منه السياسيون والمثقفون. رحل تاركًا وراءه تراثًا من الصدق المرّ، والخيبة الساخرة، والحب الذي لا يهادن. لكن رحيله في هذا التوقيت بالذات، في زمن المجاعة التي تضرب غزة، يُضفي على غيابه نبرة أعمق: كأنَّ صوته لا يزال يصدح من خلف التراب قائلًا: «أنا مش كافر... بس الجوع كافر».

في غزة، يموت الناس جوعًا، حرفيًا، لا مجازًا. الأطفال ينامون على معدة فارغة، النساء يحلبن الخوف، والرجال يخبئون دموع العجز تحت الردم. وعلى بعد مئات الكيلومترات، في بيروت التي حملت صوت زياد إلى العالم، أسلم هو الروح في صمت، ولكن أغنيته – تلك الصرخة التي تجاوزت المسرح – تعود اليوم من جديد، لا لتُغنّى، بل لتُبكى.

أغنيته الشهيرة «أنا مش كافر» لم تكن نشيد احتجاج فحسب، بل اعترافًا داخليًا عميقًا. فيها يقف الإنسان أمام ربه، لا ناكرًا، بل ناقمًا على الجوع، على الخيبة، على الظلم الذي يجعل من الإيمان ترفًا. «أنا مش كافر، بس الجوع كافر»، لم تكن تبريرًا، بل إدانة لنظام سياسي واجتماعي جعل من الجوع وسيلة قمع ومن الدين سلعة سلطة.

في غزة اليوم، تتجسّد هذه الصرخة. الجوع هناك لم يعد استعارة. الناس يموتون بحثًا عن دقيق، وأطفال يموتون تحت الخيام أو على أبواب المستشفيات، بينما المجتمع الدولي يقف صامتًا. كأن زياد، وهو في غيابه، يُكمل الرواية، يعيد تشغيل صوته من السماء: «مش كافر، بس الجوع كافر».

زمن تخلّى عن الفن كأداة للمقاومة، واستبدله بالضجيج

زياد لم يكن حكرًا على بيروت، ولا امتدادًا للرحابنة فقط. كان ابن اللحظة القاسية، وحامل مرآة المهمشين. في غزة، نسمع صداه لا لأنه كتب عنها، بل لأنه كتب عنها من دون أن يسميها. كتب عن كل أم تُذل، وكل طفل يُجوّع، وكل أب ينهار صامتًا. لم يكن فنانًا يُصفق له من بعيد، بل رجلًا يشتم الظلم من على الخشبة، ويضحك في وجه القهر، ويقول للأنظمة: أنتم العار. كان يكتب ويعزف ويضحك ويبكي، لا من أجل الأرشيف، بل من أجل أن يشعر الناس أنّ أحدًا يتحدث بلسانهم.

في زمن الفقد الكبير، حيث يضيع الأحبة تحت الردم أو في عزلة المستشفى، يُصبح رحيل زياد الرحباني علامة على زمن بأكمله. زمن تخلّى عن الفن كأداة للمقاومة، واستبدله بالضجيج. زمن ارتفع فيه صوت الجوع فوق صوت الشعر.

لكن زياد لا يموت لأنه قال ما لم يجرؤ كثيرون على قوله. لأنه حفر في وجداننا مقطعًا لا يُنسى: «أنا مش كافر، بس الجوع كافر». هذه العبارة اليوم ليست أغنية، بل وثيقة. مرثية لغزة، ووصية من فنان لم يعرف الصمت حتى وهو يودّع الحياة. الوداع يا زياد، وداع من غزة التي لم ترها، ولكنها كانت في كل نوتة كتبتها، وفي كل قهرٍ غنّيته. رحلت، لكن الجوع باقٍ، وصوتك أيضًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد